أطباق أمي: تلك الطفولة البعيدة

– 1 –

بعد تشرّدي في المدن أصبحتُ وأخوتي في نظر أمي عبارة عن مجموعة أطباق ملونّة. اجتماعنا في الأعياد يعني فرحا عارما بالنسبة إلى هذا الكائن الذي أفنى عمره كي لا نذوق الشقاء الذي ذاقته من أجل تربيتنا، وحين كبرنا غادرناها كجميع الجاحدين.

نمضي أوقاتا قليلة في منزل العائلة ونغادر مسرعين، لا نعرف لِمَ هذه العجلة، لا نلتفت وراءنا كي لا تغمرنا روائح الطفولة فنسترخي كأيّ رجال ينتابهم الحنين إلى طفولتهم التي لا نستطيع وصفها ولا نسيانها.

تتحرّك الأم في المنزل الكبير، تراقب سكناتنا، تدقّق النظر في وجوهنا، تتشمّم روائح جلدنا، وتعيدنا إلى أطباقنا الأولى التي تختصرنا مرّة أخرى. فأنا أحب المقلوبة والمجدرة وصينية الفروج بالبطاطا، وبشكل أكثر دقة أنا أعني قهوة الصباح التي لم أعرف طعما ألذ منها على الرغم من محاولاتي العديدة لتقليدها وارتيادي أفضل مقاهي العالم، تلك القهوة لا يزال طعمها تحت لساني، كأنني الآن وبعد أربعين عاما أنهض من سريري لأحتسي القهوة التي تصنعها أمي ولم أعرف سرّها حتى الآن.

حين نعود إلى منزل العائلة، تُعدّ بصمت أطباقنا التي نحب، كلّ له طبقه، وتراقبنا ممتنة لعودتنا حتى لو كانت موقتة. تغضب بصمت وتهزّ رأسها بأريحية حين تكتشف أن أحدنا قد استبدّت به أطباق امرأة غيّرت ذائقته. لا تتكلم ولا تحتج إلا أنها توصينا خيرا بأنفسنا وتمضي إلى صنع أطباقنا القديمة متجاهلة الأطباق الجديدة التي أحببناها بسبب نساء أخريات، وفي الوقت نفسه خائفة علينا من الضياع.

أخي يعني الفاصولياء الخضراء باللحمة، والأخ الآخر يعني الفريكة باللحمة، أما أخي النباتي فيعني أطباقا تحتفي بزيت الزيتون والخضر كاللوبياء. وجميعنا نعني طبخ أمي.

نأكل أطباقنا بشهية تسعد تلك الأم الطيبة، نحتفي بابتسامتها الخجولة ونكتشف أن لا شيء يسعدها سوى سعادتنا، ولا شيء يرضيها سوى إحساسها بامتلاكها قبيلة رجال يجولون المدن ويحققون نجاحاتهم وإخفاقاتهم التي تشعر بها عن بعد كأننا لا نزال مربوطين بحبل سري يرشدها إلى كآبتنا التي تقلقها. لا تفقه أي شيء في مهننا ولا تستطيع تصديق أن مجموعة أوراق أكتبها قادرة على درء خطر الجوع عني، كما لا تصدّق أن كتابا لي يجعلني محط أنظار عشرة أشخاص. بعد احترافي الكتابة بشكل نهائي كانت تحاول تصديقي حين أقول إنني على ما يرام أو إن الأمور ستكون على ما يرام، تهزّ رأسها وتستسلم للدعاء كأنني سأخرج من باب غرفتي وأقع ميتا على العتبة.

بعد موتها أصبحنا يتامى بلا أطباق مفضلة، تساءلنا في صمت: تلك الأم التي حضّرت لنا أطباقنا المفضّلة طوال حياتها ما هو طبقها المفضّل؟

غرقنا في الوجوم حين اكتشفنا أنها بلا طبق مفضّل.

نعم، أطباقنا كانت أطباقها وكانت بلا طبق مفضّل.

نأكل أطباقنا بشهية تسعد تلك الأم الطيبة، نحتفي بابتسامتها الخجولة ونكتشف أن لا شيء يسعدها سوى سعادتنا، ولا شيء يرضيها سوى إحساسها بامتلاكها قبيلة رجال يجولون المدن ويحققون نجاحاتهم وإخفاقاتهم

-2-

في بداية السبعينات من القرن الماضي كنا أطفالا نقطن مدينة حلب، نمضي الصيف في قريتنا مريمين التي ورد اسمها في ملحق التعريف بشقيقتها قرية مريمينالأخرى التابعة لحمص في “معجم البلدان”. تبعد عن مدينة حلب أربعين كيلومترا، وعن منطقة عفرين عشرة كيلومترات من طريق السيارات، وخمسة كيلومترات إذا نزلت جبل قرية عشق قيبارمشيا.

قرية محاطة بغابات الزيتون والتين، مطرها يكفي لنمو القمح والشعير واللوبياء والبامية والبندورة والخيار والقثاء والبطيخ الأحمر والأصفر وعرانيس الذرة بشكل خاص. كانت منطقة خصبة إلى حد الكفاية دون بذخ الأراضي الواقعة على ضفاف الأنهار، ومثل هذه الأراضي تعتبر مناطق مثالية لإنتاج الأطعمة الحقيقية للتين والزيتون والعنب والخضر الصيفية.

أوائل الصيف ننحشر في سيارة القرية (البوسطة) ونودّع من النوافذ المحطّمة الزجاج منزلنا في حلب، كأننا في فيلم سينمائي يعيد مخرجه اللقطة الأساسية كل عام كي يصل إلى أفضل النتائج. من دون مشاعر حزن أو فرح نترك حلب المدينة التي كانت وقتذاك مدينة صغيرة ولطيفة لم تزدحم بعد، إلى قرية بكل ما تعنيه الكلمة من معنى: طرق ترابية، حقول مفتوحة على المدى، وفي الليل قناديل كاز، أصوات يعاسيب وزيزان وهواء منعش بارد، وأقرباء طيبون، جدّة يقبل الآلاف يدها كي تمنحهم الرضى من بينهم مئات الأحفاد، قصص وروايات عن سيرة عائلتنا والأجداد الذين تركوا أفضل عطر يمكن ان يمنحه أجداد لأحفاد حتى لو كانوا عاقين مثلي يحتفون بالسرد دون الإحساس بالفخر، الشيء الغامض الذي تعلقت به حقا هو عطر الأرض.

أجول ساعات طويلة في الحقول، أنتقي بطيختي في أراضي العائلة وأعتني بها، أدفنها في التراب الناعم، أتفقدها كل يومين أو ثلاثة، أشارك الفلاحين سردهم الحكايات بشغف لم يتنه حتى الآن.

نحرس حقل التين بأمر من الأب الذي يريد الخلاص من ضجيجنا غير المحتمل بإرسالنا إلى حقول لا أحد يسرق محصولها، من سيسرق التين الذابل في حقول الآخرين أو البندورة التي تترك في نهاية الموسم بعد أخذ المونة منها في الأرض؟  من سيسرق عرانيس الذرة الفائضة عن حاجة الجميع، كل هذه الوفرة كانت سببا لنتذوّق طعم العصافير التي نطاردها بفخاخنا كحل وحيد للزعرنة وقضاء الوقت الذي يتمدّد بطيئا ولامتناهيا، نسرق البغال من إصطبلات العائلة ونجول على ظهورها في القرى القريبة كدونكيشوتات صغار مستخدمين اسم العائلة حين نقع في فخ النظر إلينا كغرباء يخترقون التخوم والمحرمات، ويتجاوزون المناطق الآمنة. غالبا ما ينجح اسم العائلة في إنقاذنا من الغرباء إلا أنه لا يفلح في إنقاذنا من عقاب الأهل الذي يدمر بهجتنا القصيرة، في انتظار موسم تحضير المؤونة الذي يعتبر كرنفالا حقيقيا.

نحن الأطفال لنا مطلق الحرية بالعبث والمشاركة في طقوس تحضير غذائنا، أنا وإخوتي لنا حقوق مضاعفة كأطفال مدن وزوار لا نمكث طويلا، نلوّث ثيابنا النظيفة، نرمي بعادات المدينة وراء ظهورنا كجميع الأطفال الذين يحبون العبث ويكرهون النواهي، نهرع مع أصدقائنا الموقتين إلى كل حماقات ذلك العمر، نتبرّع للمساهمة في تقطيع المشمش المعدّ لصناعة المربّى بمرح كبير، ونتبرّع بقطف البندورة الخضراء لتحضير المخللات، كما نكون مستعدين للقتل من أجل إكمال الطقوس وعدم سلبنا حقنا في المشاركة في صنع غذائنا، كأننا في زمن بدائي يحتفي بأعياد الخصب وآلهة الطبيعة.

كنت طفلا خجولا إلا أنني صاحب أفكار غريبة، أشارك بها بعض أصدقاء الطفولة من أبناء أعمامي وأقربائي، دوما أنجو من العقاب إذ لا أحد يصدق أنني صاحب تلك الأفكار الشريرة، لا أستطيع نسيان تلك اللحظات التي تلتمع فيها عيناي حين يبدأ تحضير مؤونة الفريكة والبرغل التي تشبه في تحضيرها طقسا بدائيا موروثا من ثقافات سوريا القديمة التي لا تزال مستمرة في كل الأديان التوحيدية وتُنبهنا جميعا إلى أننا أبناء أم واحدة هي الطبيعة.

نشرت على موقع المجلة هنا.

المصدر
المجلة
زر الذهاب إلى الأعلى