الجارديان البريطانية تشيد برواية الكاتب السوري خالد خليفة «لم يُصلّ عليهم أحد»

ــ رواية تاريخية إنسانية تأخذنا إلى قلب مدينة «حلب» السورية النابض

صدرت فى السادس من شهر يوليو الماضى الترجمة الإنجليزية لرواية الكاتب السورى خالد خليفة الصادرة عام 2019 والتى تحمل عنوان «لم يُصلّ عليهم أحد» بعد أن قامت بترجمتها للغة الإنجليزية المترجمة ليرى برايس وصدرت الترجمة عن دار نشر «فارار وستراوس وجيروكس»، وأشادت بالرواية صحيفة «الجارديان» البريطانية فى أحدث مراجعة نقدية لها وهى رواية تاريخية إنسانية تأخذنا إلى قلب مدينة «حلب» السورية النابض، أقدم مدينة فى العالم وفقًا لمنظمة اليونسكو للبحوث التاريخية والأثرية التى يعود تاريخها إلى 12200 سنة قبل الميلاد.

خالد خليفة وغلاف الطبعة العربية من لم يصل عليهم أحد

وتدور أحداث الرواية فى نهاية القرن التاسع عشر مع اندثار الإمبراطورية العثمانية واشتعال التوترات العرقية بين الجماعات التى تسكن أراضيها الشاسعة، حيث فر الصبى الصغير المسيحى «حنا» من إحدى المذابح العرقية تلك ووجد الملاذ فى حلب مع عائلة مسلمة ثرية، ثم نتعرف من خلال صفحات الرواية أن «حنا» ــ مثل مضيفيه ــ جزء من النخبة الثرية فى الإمبراطورية العثمانية ولكنه يختلف عنهم فى ديانته.

وسرعان ما تنشأ صداقه قوية بينه وبين «زكريا» ابن العائلة المسلمة التى احتضنته، وهى صداقة عمر امتدت على مدار 70 عامًا ومرت بالعديد من التحديات الصعبة؛ على غرار الحرب والفيضانات والصراع العرقى والتعصب والتطرف والمجاعات إلى جانب التوترات بين معتقداتهما الدينية.

ووصف الكاتب انغماس كل من «حنا» و«زكريا» فى الملذات الجسدية فى فترة شبابهما؛ حيث كانا دائمى التردد على «المناطق الحمراء» فى حلب التى تقدم المتعة الجنسية لراغبيها مقابل ما يكفى من أموال، كما وصف تعاملهما مع العاهرات والعاملات فى مجال الجنس، ثم هروبهما إلى أوروبا حيث قضيا بعض الوقت فى مدينة البندقية، وعند عودتهما قاما بتكليف أحد أصدقائهما، وهو مهندس معمارى يهودى، ببناء «قصر للمتعة» فى ضواحى المدينة أسمياه «القلعة»؛ وهو بيت دعارة ملحق به كازينو يسمح بعمل كل شىء بدون خطوط حمراء كمعاقرة الخمر ولعب الميسر وممارسة الجنس مع البغايا، وقد تفننا فى بناء تلك القلعة حتى أن هناك غرفة خاصة مخصصة يمكن للاعبين الذين فقدوا كل شىء فى لعب القمار فيها أن يقتلوا أنفسهم.

وبعد زواج كل من «حنا» و«زكريا» نجد أنهما لم يتخليا عن أسلوب حياتهما الملىء بالاستهتار، والعجيب أن زوجتيهما لم تنفرا من حياة الطيش تلك، بل ووجدتا أن سعيهما وراء المتع القصوى والحرية الشخصية مهما كان الثمن أمرًا مثيرا للإعجاب، وهكذا قضى «زكريا» وقته فى تربية الخيول الأصيلة، بينما اعتمد «حنا» على الدخل الذى يدره إدارة ممتلكات عائلته، ولكن هذه المرحلة من حياتهما الخالية من الهموم والطائشة والعبثية انتهت بشكل مفاجئ عندما اجتاح فيضان كارثى إحدى القرى وأغرق عشرات الأشخاص، بما فى ذلك زوجة «حنا» وطفلها الصغير، ومن هنا بدأت حياتىّ «حنا» و«زكريا» فى الاختلاف بشكل جذرى فى أعقاب هذه المأساة؛ حيث شكلت الفجيعة نقطة تحول فى حياتهما أدت إلى إفاقتهما من غفلتهما، فشرعا فى اللجوء إلى الله والدين هربًا من الحزن العميق الذى ألم بهما بعد أن جعلتهما المأساة يريان العالم على حقيقته.

وأشادت المراجعة النقدية بالرواية الجديدة واصفة إياها بـ «الملحمة» التى امتدت عبر عدة عصور، وذكرت أنها تصوِّر، من بين أمور أخرى، المشاكل المجتمعية التى ظهرت على الساحة فى سوريا الحديثة؛ حيث تدور الأحداث فى مدينتها «حلب»، وهنا وجب التنويه أن الكاتب خالد خليفة نفسه من مواليد مدينة «حلب»؛ لذا فقد برع فى نقل جمال المدينة وأهميتها ومكانتها فى التاريخ للقارئ؛ فالمدينة التى خطها قلم «خليفة» مليئة بحكايات الحرية والتجديد والصداقة والحب غير المشروع.

كما أثنت المراجعة على ابتكار «خليفة» للشخصيات فى روايته الجديدة؛ حيث أتت متنوعة ومعقدة ومتناقضة ومتعددة الهويات وإن جمعها مكان واحد؛ كما أن سطوره تخلق لدى القارئ شعورًا متناقضًا بين تعاطفه مع الأبطال وبين نفوره من حياة الخطيئة مما يلخص فلسفة التجربة الإنسانية ذاتها التى تتخبط فى الحياة معظم الأوقات؛ أو كما قال «خليفة» على لسان إحدى بطلاته: «ما نفعله لم يؤذ أحدًا، ولكنه كان مجرد طريقة أخرى لفهم الحياة».

جدير بالذكر أنه منذ بداية الحرب الأهلية السورية عام 2011، تم قصف المدينة التى يبلغ عمرها آلاف السنين بلا هوادة، والأحداث التى تغطيها الرواية ما بين حوالى عام 1880 حتى عام 1950 هى مرآة لكارثة سوريا الحديثة. كما أفادت المراجعة أن «خليفة» تخطى المحاذير فى روايته الجديدة حيث صوّر قصة حب محكوم عليها بالفشل بين رجل مسيحى يُدعى «جنيد خليفة» وشابة مسلمة.

ولم يلجأ «خليفة» للسرد الزمنى التقليدى فى قصته؛ ولكنه حرص على التنقل بين الفترات المختلفة حسبما تقتضى الحبكة، وذكرت المراجعة النقدية أن «خليفة« استخدم فى أسلوبه المعتاد فى سرد الروايات الذى يمتاز بثراء التفاصيل والعدد الهائل من الشخصيات الثانوية التى تقتضى بالضرورة تعدد وجهات النظر فى الحكى، ولجعل الأمور أكثر تعقيدًا، تنقّل «خليفة» بين استعمال الراوى العليم والراوى المباشر.

وعلى الصعيد الآخر، انتقدت المراجعة النقدية الأسلوب السردى المعقد بعض الشىء فى الرواية، وقلة استعمال الحوار والمشاهد الأدبية؛ لاسيما مع كون «خليفة» أيضًا كاتب سيناريو، وقالت إن الكتاب عبارة عن سرد نثرى لمجموعة من الوقائع حول حيوات شخصيات الرواية المختلفة سواء الرئيسية أو الثانوية.

وتتمثل إحدى الأفكار المسيطرة فى الكتاب فى أهمية عيش المرء حياته ورفض التوافق مع أى توقعات، سواء كانت مفروضة من قِبَل الأسرة أو الدين أو حتى المعايير المجتمعية أو الأخلاقية، وينعكس هذا الموقف على حياة المؤلف نفسه الذى اختار مهنة الكاتب فى سن الخامسة عشر فقط، واستمر فى الإقامة فى دمشق طوال فترة الحرب الأهلية المستمرة حتى الآن.

وفى النهاية، أشارت المراجعة إلى أن «خليفة» أبدع فى كتابة «الثمن المأساوى» الذى ندفعه نتيجة اختياراتنا فى الحياة، وقد تجلى ذلك فى قصة الحب التى لم تكتمل فى الرواية، وفى صداقة «حنا» مع «زكريا» التى جاءت بثمن باهظ للغاية.

والرواية فى مجملها محاولة لإحياء ذكرى «حلب» واستعادة ماضى مدينة من أهم وأعرق المدن عبر التاريخ والكيفية التى أثرت بها تلك المدينة ــ وتأثرت ــ بمشكلات العصر الحديث.

جدير بالذكر أن خالد خليفة يملك رصيدا كبيرا من الأعمال الأدبية التى تمت ترجمتها إلى العديد من اللغات، ووصلت روايته «لا سكاكين فى مطابخ هذه المدينة» إلى القائمة القصيرة لجائزة البوكر العربية وفازت بجائزة نجيب محفوظ لعام 2013، وهى روايته الرابعة بعد «حارس الخديعة» الصادرة عام 1993، و«دفاتر القرباط» الصادرة عام 2000، و«مديح الكراهية» الصادرة عام 2006 والتى وصلت إلى القائمة القصيرة لجائزة البوكر العربية كذلك.

نشرت على موقع الشروق هنا

المصدر
الشروق
زر الذهاب إلى الأعلى