العيش تحت مظلّة الخراب

 رواية خالد خليفة الجديدة كُتبت كأنما في جملة واحدة، صاخبة وسريعة الإيقاع. على مدى الصفحات المئتين والستّين، نظلّ، نحن القرّاء، في تلك الذروة ولا ننزل عنها أبدأ. تلك النبرة الملازمة للرواية من أوّل صفحة فيها لا تتراخى ولا تهدأ. هذا ما يجعل مصائر الأبطال، المأسوية والتراجيدية، بادئة من لحظة التعريف بهم ولن يكون علينا انتظار الصفحات الأخيرة حتى تكتمل مآسيهم. وهم كثيرون في الرواية، ثلاثة أجيال تعاقبت وتداخلت، ليس فقط بأفرادها جميعاً بل أيضاً بكلّ من اتّصل بهم، سواء بلقاء حاسم أو بلقاء عابر. 

لا يمرّ رجل أو امرأة إلا ليحضر بتفاصيل كافية، فيزيائيّة وحدثيّة، لكي يستوي شخصيّة لها وجودها وتاريخها الشخصي. لذلك نجدنا، فيما نحن نقرأ، عائدين إلى قراءة صفحات سبقت من أجل أن نرجع إلى ردّ الأسماء إلى أصحابها. أو سيكون علينا أن نمعن في التركيز كي نوصل ما سيتبع بما سبق له أن حصل. الكثرة تلك عائدة إلى كون الرواية مشرعة الأبواب للداخلين إليها، فضلاً عن إتاحتها لهم ذلك الحيّز الكافي. أما آليّة ذلك فالإنتقال الحرّ من شخصيّة إلى أخرى، أي أننا نكون نقرأ عن سوسن ثم نجد أنفسنا منتقلين إلى أمّها أو إلى جدّها هكذا من دون تمهيد للانتقال. ودائماً كان يحرص الراوي على إيلاء البطولة لشخصيّاته جميعاً، حيث لا أحد يسبق أحداً في ذاك السباق على البطولة (الروائيّة) ربما بما عدا الأخ الذي لقي مصرعه أثناء مقاتلته إلى جانب رفاقه في التنظيم الإسلامي، حيث ننتبه إلى حضوره القليل بالقياس إلى عِظَم مأساته.

أما السرد فيشبه رسماً تخطيطياً تتوالد فيه، أو تنبثق منه، دائرة من دائرة من دائرة وهكذا، وكلّ ذلك يحصل هناك، عند تلك الذروة الموصوفة أعلاه. لكنّ مهارة خالد خليفة، بل قوّته التخييلية، أو تركّز الحسّ التراجيدي عنده، يجعلنا متعلّقين دائماً بما نقرأ، مقتربين إلى حدّ التبنّي من كل الشخصيات التي غالباً ما نجد مشابهاً لها في ما حفظته ذاكرتنا. أو أنّنا نستطيع أن نؤلّفها تأليفاً مما احتوته ذاكرتنا. العمّ نزار، المهذّب المثليّ والمشتغل، مبدعاً، بالموسيقى نقرأه ونحسّ أننا، مع خالد خليفه، نؤلّفه أو نصنعه. وكذلك حالنا مع رشيد الأخ، المنتقل من الإشتغال بالموسيقى، على خطى خاله، إلى التعلّق بالدين، إلى الإنكفاء عن الدين، ثمّ إلى الانتحار شنقاً في الصفحة الأخيرة من الرواية. وكذلك حال سوسن، الأخت، التي هي أيضاً تتنقّل بين خيارات متطرّفة ومتناقضة في غالبها. 

تردّ الرواية ذلك التهاوي العام إلى التغيّر في مراتب الناس وتحوّل عيشهم عن تقاليدهم، كما عند الأمّ مثلاً، المدرّسة الباقية رغم ذلك في الأخلاقيات العثمانية. كما أن لا شيء بقي على حاله. الأمكنة تغيّرت وكذلك قاطنوها البشر. لكنّ الأمّ، في ما بلغته من هذيانها، لم تنتبه إلى ما يحدثه النظام الحاكم من تخريب في النسيج الحياتي الذي أصاب الجميع. سوسن، في سيرتها تمعن في وصف كلّ ذلك، متراوحة بين أن تكون هي نفسها طرفاً في إشاعة ذلك الفساد ثم ضحيّة من ضحاياه في فترة تلت. الخال رامز أيضاً، الأخ المتوفّي.. بل إن الجميع، من دون استثناء تقريباً، أصيبوا في دواخلهم. وما يجعل ذلك عاماً وشاملاً هو اتساع المجالات وتعدّدها التي يذهب إليها الروائيّ. من هذه مثلاً بلوغ الرواية ما تتفاداه رواياتنا غالباً من النزول إلى القاع المخفيّ من الحياة الجارية في البيوت، والسكوت عن حصول ما ينبغي ألّا يحصل. من ذلك مثلاً الشهوة حين تستعر في غير موضعها بين مَن لا يجب أن تكون شهوة بينهم.

تعدّت رغبة الروائي خالد خليفة تكثير الشخصيّات إلى التدليل على شمول روايته بشراً لم يؤتَ على ذكرهم فيها. أن تتعدّى الرواية مدينة حلب، على رغم اتساعها وتعداد أهلها إلى أن تكون مرثيّة للجميع.

• “لا سكاكين في مطابخ هذه المدينة” رواية خالد خليفة الصادرة عن “دار العين للنشر”- 2013.

نشرت على المدن هنا

المصدر
المدن
زر الذهاب إلى الأعلى