يوم آخر على التغريبة السوريّة نحصي فيها أسماءنا ونبحث عن تضاريسها القاسية، وقد حوصرنا بذاكرة المكان والزمان، ندمدم مع النوافذ نتأمّل العابرين والمُنتظرين، وتعلو الدمدمات والطموحات ونحن نعبث بحمّالات حقائبنا المهترئة ريثما ينقشع الضباب وتتضح شاشة المواقيت، ويركن المنتظرون والتائهون للصمت وهم منسلخون عن المكان بانتظار موت شاق هو الآخر، نبحثُ عن أسمائنا بعدما فقدت أرواحنا صوتنا الغائر في وديان عميقة لا نهاية لها، تفقدُ الوجناتُ دمعتها على الوجوه المتصحّرة وجعاً، ولا يتواترُ إلا الخرابُ المزدهي بقبورنا فتتعطّل كل الحواس ونحن نتحسّس جثثنا قبل أوانها، فيبدو الرثاء مبتور الأجنحة مادام وجه دمشق الحزين مسكوتاً عنه، يرافق جثثنا إلى مواقد إحراقها، فنصير إلى اللاشيء إلا من ذاكرة عصيّة على الموت، عصيّة على النيران، وقد نبتت على رفاتنا طحالب الخذلان وثآليل القلق.
الراحل المبدع خالد خليفة، لربع قرن تراودكَ فكرة “الموت عملٌ شاق”، فتشعر بالسعادة عندما تجد شخصية “بلبل” فيكَ، فيردّد معكَ الناجون من المحرقة السورية الكبرى: يا له من عملٍ شاق، وهكذا تساءل حنّا بعد الطوفان في “لم يصلّ عليهم أحد”، ما هذا الوجود؟ لماذا ينتظرنا الشقاء؟، فيبدو الكون مظلماً من دون معجزة تنشلنا من الشقاء، وسوف تبوء بالفشل محاولات إبراهيم في صناعة المعجزة والقداسة لحنّا: “ليس مهماً حدوث المعجزة بل الأهم هو تصديق الناس لها.. دوماً نحتاج إلى المعجزات للتخفيف من بؤسنا”. لكن حنا اختار ألا يتجرّع أوجاع الناس بقداسة وهميّة، اختار أن يغوص في النهر فيتبعه البقيّة. فلا المعجزة ممكنة لتنشل البؤس عن وجوهنا، ولا الأسئلة الوجودية تمنح البقيّة المتبقيّة صكوك الإفلات من ركوب الشواطئ والضفاف، فلم يبق ناج من المحرقة إلا ومزّقه الطوفان الذي يتلذّذ بعذابات الناس وهو يجرف مقابرهم التي بقيت من دون حارس لها مهما حاولنا التشبّث بالمكان، وقد يكون موتنا الشاق هو الجزء الأبرز في حراسة أرواحنا.
لقد اقتسمت التغريبة السوريّة أرواحنا ما بين العواصم والقرى، وأصرّ خالد خليفة أن يحرس هذه الأرواح، إلى أن غيّبه الموت ودوّنت صفحاته فهارس الوفيّات. فنرحل عن المكان مرّات متوالية ونحن لانزال نبحث عن زمن ضائع هو الآخر، وتنهال الورود على الصفحات وتقرع التعازي أجراسها، وتتزاحم المرثيّات ربّما وهي تغفل عن زمن “مديح الكراهية”، تغفل عن جثث الأمهات بعد نصف قرن من المعاناة مع البطش والرغبات المقتولة في “لا سكاكين في مطابخ هذه المدينة”، والأبواب الدمشقية السبعة المستباحة في “حارس الخديعة”.
على الصعيد الشخصي لا أجيد الرثاء أو المديح، وقد اعتدنا في عصر المحرقة الكبرى أن نبكي بصمت وقد أصم العالم آذانه عن صرخاتنا، وفُجعنا بالرحيل المبكّر لروائي من أهم الروائيين العرب، وقد شغلت سردياته أقلام النقّاد وطرقت باب البوكر، وتُرجمت إلى لغات عدّة، خالد خليفة المتشبّث بالمكان في مجمل كتاباته، فسورية هي المكان الذي يعنيه، وما تعطيه إياه هو الإصرار على البقاء فيها حسب تعبيره: أنا أنتمي لجيل مهاجر ومنذ الثمانينيات هاجر قسم كبير من أبناء جيلي، وكانت مواهبهم كبيرة، لكن ببساطة شديدة بعد سنوات انتهت مواهبهم، وأنا أخاف أيضاً أن أفقد الحبل السري مع الكتابة. هذا السر العميق بين خليفة والمكانيّة أمدّه بنسغ الكتابة ورفع الغطاء عن المسكوت عنه حول مجازر بشعة عبر التاريخ القديم أو الحديث وقد أفلت مرتكبوها من العقاب، حتى التأريخ تواطأ مع القتلة ولم ينصف الأموات. استطاع الراحل أن يقدّم للقارئ مراحل مهمة من التاريخ السوري معتمداً على الخيال الروائي المستند على ركائز تاريخيّة، وعبر الحوار الضمني في خيال الراوي تاركاً للقارئ فسحة التخييل والمشاركة في النص، وعبر إثارة الأسئلة الوجودية الكبرى على لسان الشخصيات، لم يكن يتدخل في مسار الشخصيات تاركاً لها فرصة أن تتنامى أو تخرج فالباب مفتوح، وقد عُرف عنه بين الأصدقاء أنه يكتب بتمهل وعناية حتى بلغت مسودات إحدى رواياته أكثر من خمس عشرة مسودة، لم يهتم بغزارة الإنتاج أو التسابق إليه، كانت الأولوية أن يخرج النص للنور بعد صبر طويل يعيش فيه مع الشخصيات وتداهمه كوابيسها، لم يبحث عن الشهرة التي يصفها بغير الهامة للكاتب الحقيقي، أراد أن يقدّم أسرار المكان الذي يغصّ بالأرواح والمقابر، حضرت حلب وتاريخها الثقافي في مجمل أعماله، وكتب على أسوارها ذاكرة الصوت والصدى كحاضرة ثقافيّة مؤثرة في التاريخ بشكل أوسع لولا أنه تم تهميشها.
وداعاً خالد خليفة
سيبقى الموت شاقاً والأرواح خارج المكان تأنس بمن يحرسها
نشرت على نينار بريس هنا