من “الشام” إلى “العنابيّه” تبدأ رحلة الشقيقين “حسين” و”بلبل” مع شقيقتهما “فاطمة” بهدف تنفيذ وصية أبيهم بدفنه في قبر أخته “ليلى”. في وقت يضرب فيه الموت بطول البلاد وعرضها ويستفحل القتل والإجرام، وفي زمن تحوّل فيه الإنسان إلى رقم جثة إضافية، يفكر “بلبل” بين الفينة والأخرى أن الوعد الذي عاهد به أبيه كان رومنطيقيًا إلى حدّ بعيد، وهي الحقيقة التي يواجهه بها “حسين” دائمًا بشحنة من الغضب.
يرسم خالد خليفة في روايته “الموت عمل شاق” (هاشيت أنطوان)، شخصياته الثلاث بحنكة درامية تحاكي كل شذرة من شذراتها لتربط في ما بينها بحبل وثيق يتأرجح بين الحب الطفولي، الأحقاد، رابط الدم، الرغبة غير المتكافئة في ترميم العلاقة العائلية، الاستسلام للوحدة، من خلال هذا اليوم الذي اختبروا فيه عدم جهوزيتهم للوجود معًا أو إصلاح ما تهدّم وبناء ما لم تكن له أسس ثابتة أصلًا.
“صمتهم يفضح خوفهم من الاعتراف بعدم احتمالهم أن يكونوا معًا في مكان واحد ليوم كامل، فقدوا براءة الطفولة، حين كانوا يشتاقون بعضهم إلى بعض كأي إخوة لديهم أسباب كثيرة للتعاطف. حين كبروا، اكتشفوا أن ما يفرقهم كثير ورابطة الدم لا تكفي للعيش في كذبة الوئام العائلي التي تفسّخت منذ زمن بعيد”. (ص 101)
هذا الصمت في الجزء الأخير من الرواية يحاكي الصمت في جزئها الأول حيث انتاب “بلبل” وسائق التاكسي الذي ما أن أخبره الأول بوفاة أبيه حتى ضحك وأخبره عن موت إخوته وأولادهم “الشهر الماضي في القصف، صمت الاثنان، لم يعد الحديث متكافئًا،…” (ص8). هو الصمت نفسه الذي عاشه “بلبل” مع إخوته طوال الرحلة إذا ما استثنينا المشادات، تبادل اللوم، مناقشة أمور الطريق،… لقد باتوا أكثر من غرباء.
يوضح خليفة إذًا، بمقاربة ثلاثية المحاور، تعاطي كل من الأبطال الثلاثة مع الموضوع في خضمّ ما ينتظرهم من تحديات يعرفون أن عواقبها قد تأتي وخيمة.
“فاطمة” الفتاة “الطموحة” التي تحب المظاهر والحياة المرفهة، هزمها القدر في زواجها الأول الذي اتضح أنه لم يكن سوى من “غرسون” لدى الطبقة المخملية الفاسدة. وتحاول اليوم، أن تعوض ما خسرته من خلال أبنائها من زواجها الثاني. تلتزم “فاطمة” الصمت هي التي تعودت أن تطيع أوامر أخيها “حسين”. “حسين” الذي يحفظ حكمه من أوراق الرزنامات، لكي يبدو بمظهر العارف، يعجز عن استحضار ما يناسب الموقف، جلّ ما يتذكره الآن هو: “الحيّ أبقى من الميت” لكن لم يكن يعجبه هذا المثل لكثرة ما يتداوله الجبناء، واليوم قد يكون الأمر مختلفًا والميت هو الـ”أبقى من الحي”.
يبدأ “بلبل” بلوم نفسه، فمن الطبيعي لرجل على فراش الموت أن يمعن في الرومنطيقية، ولكن الخطأ خطأه هو، كان يجب أن يرفض معلّلًا ذلك لأبيه باستحالة الوصول إلى “العنابيّه” في هذه الظروف.
بعد كل المشقات التي تكبدوها، مرورهم في ممرات البضائع حينًا لأنهم يحملون “جثة”، وتعرضهم للمهانة والمذلة، فضلًا عن اعتقال الجثة كون والدهم المعارض المناضل كان مطلوبًا أمنيًا بسبب نشاطه السياسي، واسم العائلة الذي لم يساعدهم كونه يعود إلى مناطق نفوذ المعارضة، والأمر نفسه ينسحب على مكان ولادتهم… تتصاعد الأحداث لينجح خليفة في وضع قارئه أمام واقع ملموس، وهو أننا أمام نظام متوحش وبربري ينهش حتى جثث موتاه، ومعارضة مقسّمة أجزاءً لكل منها أحكامه وشرائعه الخاصة، وذلك في عبور الكاتب بنا من خلال أبطاله الثلاثة على امتداد الجغرافيا السورية من الـ”شام” إلى “العنابيّه”.
أمام كل ذلك أطلق الكاتب على لسان “حسين” رصاصة رحمته الأولى بحقهم جميعًا، بحق الجثة التي بات دفنها سبيلًا لإهانتها المعنوية مرة بعد مرة، ولعل اختيار الكاتب لـ”حسين” مرتبط بالخيوط الدرامية التي نسج بها هذه الشخصية الشجاعة واللامبالية بأحكام الآخرين:”إذا اعتقلوا الجثة فسيتركونها لهم يتصرفون فيها بطريقتهم، يحرقونها أو يبيعون أعضاءها أو يرمونها في قبر جماعي، فماذا يهم الميت في النهاية؟ (ص 36)، وذلك خلال محاولتهم فك أسر الجثة من الاعتقال.
يذكّرنا خليفة في روايته هذه بعبارة نرددها دومًا: “ما قل ودل”؛ فهو لا يقحم الكثير من التفاصيل ليعبّر عن فكرة أو حالة تصف الجو العام المسيطر بإسهاب قد يفقده اهتمام القارئ إن فعل، بل يقولبها في حكاية صغيرة لها دلالات كثيرة ليسكب فيها حكايا أخرى تتآلف معها في قالب روائي يحاكي مزاج القارئ ويثبّت فيه حضوره الروائي بقوة الإبداع لا الاقتحام.
“في الحيّ التابع للنظام الذي يسكن فيه “بلبل” جارة اسمها “أم الياس” تُقتَل بسبب امتلاكها للمال والمجوهرات، ويتّضح أن القتلة هم ابن أخيها وأصدقاؤه. يعقّب الكاتب: “اضطرت الشرطة إلى تعقّب الموضوع كي لا يسجَّل تحت بند جريمة طائفية تثير ذعر السكان المسيحيين” (ص 34)، ويكتفي بهذا القدر إذ تتضح الفكرة، ويمضي في سرده عائدًا إلى موت الأب الذي تلا موت “إم الياس” على اعتبار أنه واحدة من الميتات الطبيعية القليلة هذه الفترة، حيث “فعل القتل لم يعد يستدعي الحيطة والحذر”.
استطرادات خليفة العميقة والملهمة تجعلك تحس أن الحبكة قد تفلت منه أحيانًا، إلا أنه لا يذهب إلا ليعود بمعطيات أكثر صلة بالحاضر لا تدعك تخرج من طقس الرواية المهيمن عليك، بل تأسرك أكثر بتفاصيلها فتعود لتتذكر مثلًا، أن الوالد “عبد اللطيف” كان قد أخبر “بلبل” قبل موته عن زواجه من “نيفين” الفتاة التي أحبها منذ أربعين عامًا وعجز عن الزواج بها وقتذاك… وأنّها هي من طلبت منه المغادرة بعد أن ساءت حاله كي يعتني به ابنه لأنهما كانا يرزحان تحت حصار قاتل فُرِض على بلدتهما “س”. كان “عبد اللطيف” و”نيفين” يعتنيان بالمستشفى الميداني والمقبرة التي هندسها “عبد اللطيف” للشهداء ورفضت “نيفين” أن يُدفَن بها إلى جانب ابنها وزوجها.
هي تلك الصدفة التي ابتدعها خليفة من عمق الوجع إذًا، مهندس القبر يبحث عن قبر له، ومن هنا تحديدًا جاءت وصية “عبد اللطيف” بدفنه في “العنابيّه” بقبر أخته. وفي خضمّ هذه المآسي الكبيرة التي تعرَّض لها الأبطال الثلاثة في رحلة تكاد لا تجد لها نهاية كأنها رحلة إلى الجحيم أو هي الجحيم بذاته، لا يصبغ الكاتب نصه بسوداوية عبثية بل يطعّمها بالحكمة المستقاة من عمق المعاناة وقسوة الواقع، لينسجها بخيط من أمل يبقى حاضرًا في النص المعمَّد بالثورة والعنفوان، من دون أن يأتي ذلك على حساب الموضوعية التي يُشهد لـلكاتب بها، حيث يسكب نصّه باتقان بعيدًا عن الوعظ أو التشفي.
وبعد أن دُفِن الأب أخيرًا في “العنابيّه” قام أقرباء “بلبل” وأبناء قبيلة أبيه بتحريره حيث اعتقل لدى التنظيم، عند عودته بات الجميع يناديه باسمه الحقيقي “نبيل”، بعد أن نجح في تنفيذ “الوصية”. خلال زيارة قبر أبيه،
“اكتفى بنزع بعض الأعشاب اليابسة عن قبر أمه، وشعر بحزن شديد، لن يستطيع إخبارها أنها لم تكن تعني شيئًا لأبيه، مجرد زوجة، كل ما قيل عن الحب العميق الذي يربطهما كان أكذوبة لم يجرؤ أحد على تكذيبها، فالأحياء يجب أن يستمروا بسرد قصص الأموات المنافقة..” (ص 150).
ويأتي هذا الخوف وتلك الحسرة على مشاعر الأم، في ما لو عرفت، مناقضين لما أورده الكاتب سابقًا عن معرفة الأم بطبيعة زيف العلاقة بينها وبين زوجها، مما يشكل نوعًا من الخلل الذي يشتت القارئ، ويجعله غير قادرٍ على تحديد ماهية العلاقة بين الأبوين.
الواقع الذي يتحكّم بمجريات الرواية والذي دفع الأب إلى اختيار “العنابيّه” بعد رفض “نيفين” – زوجته الثانية – أن يُدفَن قربها في بلدة “س” هو سر ليلى شقيقة “عبد اللطيف” الفتاة الرائعة التي يذكرها الجميع لجمالها ورقتها وعذوبة صوتها، والتي أقدمت على إشعال نفسها بثوب عرسها الأبيض رفضًا لتزويجها من رجل لا تحبّه. “دارت حول نفسها، رقصت كمتصوّفة لتزيد من اشتعال النار في جسدها الذي تحوّل إلى جثّة محترقة” (ص 89). وهنا يبلغ خليفة بتألّق عمله الروائي هذا قمة تجلّياته، فلعل “ليلى” هي سوريا عروس هذا الشرق التي يضحّي الأب بأبنائه، أغلى ما لديه، لا ليعيش قربها بل ليُدفَن قربها. هي الأرض الثائرة التي أشعلت نفسها للخروج من براثن الأسد. سوريا الأرض الحرة بفستانها الأبيض. لعلّه، ومن هنا، يؤسس خليفة خطّه الدرامي ليشهد وصول الجثة إلى “العنابيّه” إنما لتُدفَن في قبر آخر وتتفرّد ليلى في قبرها حيث لا مساحة لموتى آخرين.
مقالة نشرتها جريدة الحياة اللندنية بتاريخ 21 أبريل (نيسان) 2016
نشرت في موقع الرواية هنا