“الموت عمل شاق”(1) رواية شقاء الموت للكاتب السوري خالد خليفة

يعد خالد خليفة من أبرز الروائيين السوريين وقد تناول في رواياته الوضع السوري عبر عقود بتطرقه إلى المسكوت عنه في المجتمع السوري المحكوم بالخوف والقمع والعنف. في روايته “مديح الكراهية” تطرق إلى الحرب الدائرة بين النظام السوري والإخوان المسلمين فنقل ما جرى في حماة. وواصل في روايته “لا سكاكين في مطابخ هذه المدينة” حكاية التراجيديا السورية مستكملا سوداوية التاريخ السوري الحديث ليحط برحاله مع الحرب الأهلية السورية (سنة 2013) في روايته “الموت عمل شاق” فكأن القدر السوري هو عدم الخروج من القتامة.

شقاء الموت

انطلق الراوي في “الموت عمل شاق” بوصية تبدو في ظاهرها بسيطة، ولكنها في ظروف الحرب الأهلية السورية مهمة شاقة.

“قبل موته بساعتين٬ نظر عبد اللطيف السالم بما بقي له من قوّة في عيني ابنه بلبل٬ كأنه ينتزع منه وعدا مؤكدا، ثم أعاد طلب دفنه في مقبرة قريته العنابيّة. عظامه سترتاح بعد زمن طويل قرب رماد أخته ليلى كما قال ]…[ بلبل في لحظة شجاعة نادرة٬ وتحت تأثري كلمات الفراق الأخيرة وعيني أبيه الغائمتين الحزينتين٬ تصرف بثبات ودون خوف٬ ووعد أباه بتنفيذ وصيّته التي كانت برغم وضوحها وبساطتها مهمّة شاقة” (ص 5(.

حيث الحرب طبّعت مع الموت وجثث القتلى في كل مكان يدفنون في مقابر جماعية. لا مراسم دفن وعزاء. مساواة بين الجميع في الموت. هكذا يصبح جثمان عبد اللطيف السالم عبئا ثقيلا على ابنه نبيل أو بلبل الذي سيقطع مع أخيه “حسني” وأخته “فاطمة” مائات الكيلومترات لإيصال جثمان أبيه إلى مثواه الأخير في ظل مخاطر الطريق المحفوفة بالموت. حرب ضارية بني أبناء الوطن الواحد. فرقت بين الأهل وقسمت الجغرافيا السورية. حواجز الموت على كامل الطريق.

“عند مطلع الطريق الدولي٬ كانت السيّارات تنعطف إلى طريق فرعي. سأل حسني سائق سيّارة أجرة إن كان الطريق مغلقا٬ ّ فأجابه بأن القنّاصة يمنعون المرور٬ وأضاف: منذ ثالث ساعات قنصوا أربعة مسافرين٬ مشيرا إلى أربع جثث لرجل وامرأة وشاب وفتاة. فكّر بلبل بأن هؤلاء اختاروا الموت كما عاشوا٬ كعائلة. انحرف حسني بالميكروباص في زواريب ضيّقة٬ أصوات قصف الطيران قريبة منهم٬ باستطاعتهم رؤية الطائرة وهي تطلق صواريخها من ارتفاع منخفض٬ الشظايا تتناثر حولهم. حاول حسني التركيز على الطريق كي لا يجدوا أنفسهم محاصرين وسط بساتين الزيتون المحترقة” (ص 18).

خيمت جثّة عبد اللطيف على كامل الرواية لتكون الخيط النابض للسرد من خلاله قص علينا خالد خليفة فظاعة الحرب وعبثيتها. لكن الراوي خلال هذه الرحلة المتاهة اللامتناهية بين الحواجز الأمنية المختلفة وصعوبة الإجراءات العديدة للمرور الذي تطلّب دفع الرشاوى رغم ذلك اعتقلت الجثّة مع مرافقيها. هذه هي عبثية الحرب. مما أدى بالجثّة إلى التعفن.

“أشارت بإصبعها إلى جثّة أبيها التي تتناسل الديدان منها بكثافة” (ص 142(.

على طول هذه الرحلة الكابوسية سرد علينا الراوي ماضي حياة العائلة بمرّه وحلوه. عن حكايا شطارة “حسني” وعن هشاشة “نبيل” وتجاربه الفاشلة في الحب وعن رومنسية “عبد اللطيف” وزواجه الثاني من حبيبته الأولى والتحاقه بالثوّار.

شعرية الجثّة في الأدب

مثّلت الجثّة محور عدّة نصوص سردية منها قصة “مواقعة حوريّة البحر في فينيسيا٬ كاليفورنيا (2( للكاتب الأمريكي تشارلز بوكوفسكي جاء فيها سكيران ثملان يسرقان جثّة امرأة من كفن مستشفى. يضاجعان هذه الجثّة (نيكروفيلي) ثم يرميان بها في البحر. وقصة “الدفن” (3) للكاتب المغربي محمد زفزاف من مجموعته القصصية “حوار في ليل متأخر” فيها حيرة مزارع في وجود طريق سالك لحمل جثّة زوجته لدفنها في مقربة القرية لأن صخورا من الجبل انفصلت عنه بفعل السيول التي حفرت في الرتبة وسقطت هذه الصخور قاطعة الطريق الوحيدة التي تربط بين منزله في أعلى الجبل وأسفل القرية. ورواية “ميتتان لرجل واحد” (4) للكاتب البرازيلي جورج أمادو تدور أحداثها حول مغامرة لمرشدين يهربون جثّة “جواكيم سواريس دا كونيا” من مراسم دفن عائلته الأرستقراطية كمحاولة استعادة صديقهم ورفيقهم المعروف لديهم باسم “كينكاس هدير الماء” ليرموه في البحر لأنهم رأوا في أمواجه أليق من دفن رفيقهم تحت التراب. أما قصة “الجثّة” (4) للكاتب الكردي فرهاد شاكيل تتقاطع مع رواية “الموت عمل شاق” في أنّ الموت مهمّة شاقّة. حيث في هذه القصة (الجثّة) رحلة أب وابنه عبر الأحراش يموت الأب أثناء الطريق لتكون معاناة الابن في حمل جثّة أبيه إلى المكان الذي أراد الوصول إليه.

“إن الشيخوخة تعّبر عن اللحظة التي يعرض الجسد نفسه فيها لنظرة الآخر في نهار لم يُعد مواتيا له” (5). هذه هي الشيخوخة كما يصفها الأنثروبولوجي الفرنسي دافيد لوبروتون ب”الجسد المهزوم”. فما بالك بجثّة هامدة.

لقطة شاشة من العدد 307 من الشارع المغاربي

—————

1- خالد خليفة: “الموت عمل شاق”٬ نوفل-دمغة الناشر هاشيت أنطوان٬ بيروت 2016

2- تشارلز بوكوفسكي: “أجمل نساء المدينة”٬ ترجمة ريم غنايم٬ منشورات الجمل٬ بيروت-بغداد 2015 ص 239-249.

3- محمد زفزاف: “الأعمال القصصية الكاملة”٬ المركز الثقافي العربي٬ المغرب 2017 ص 71-75.

2015 جورج أمادو: “ميتتان لرجل واحد”٬ ترجمة عبد الجليل العربي٬ مسكيلياني للنشر والتوزيع٬ ط 6 تونس 4

4- “مختارات من القصة الكردية القصيرة”٬ ترجمة وتقديم جان دوست٬ دار فضاءات للنشر والتوزيع٬ الأردن 2021 ص 13-30

5- دافيد لوبروتون: “انتروبولوجيا الجسد والحداثة”٬ ترجمة محمد عرب صاصيال المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر والتوزيع٬ ط2 بيروت ٬ 1997 ص 142

نشرت المقالة الاصلية في الشارع المغاربي في 19-04-2022 صفحة 33 على الرابط https://acharaa.com/wp-content/uploads/2022/04/maghreb-street-n307.pdf

زر الذهاب إلى الأعلى