زيوريخ: تلقيت دعوة من مؤسسة جيمس جويس في زيوريخ لإحياء يوم 16 يونيو/حزيران الذي يسمى “يوم بلوم” (بلومز داي Blomassday) وهو اليوم الذي يحتفل فيه عشاق جيمس جويس بروايته الأثيرة “عوليس”. بدأ الاحتفال في هذه المناسبة عام 1954 في مناطق مختلفة من العالم، وهذه السنة احتفل عشاق جويس كالعادة في إسطنبول ولندن وزيوريخ ومدن أخرى، لكنّ الاحتفال الأبرز دوما يكون في زيوريخ لخصوصية علاقة جويس مع هذه المدينة التي تضم جثمانه، والتي تحولت إلى وطن ثان له ولعائلته. كان احتفال زيوريخ هذه السنة فرصة لإعادة التذكير بما تعرّض له الكاتب ونصه من منع ومصادرة واضطهاد من جهات وبلدان كثيرة أولها بلده أيرلندا والولايات المتحدة الأميركية التي منعت طباعة الكتاب، بعد نشر حلقات منه في مجلة “شيكاغو ليتل ريفيو ” بين عامي 1918 – 1920.
منذ تلك اللحظة بدأت المعارك حول الكتاب وحتى الآن لم تنته. ليحظى بعدها بطبعة أولى تبنّتها سيلفا بيتش التي نشرته متحدّية الحظر والمنع، ليصدر في طبعة أولى عن مكتبة “شكسبير آند كومباني” في باريس عام 1922.
الحديث عن جيمس جويس شيق على الرغم من صعوبته، متشعب أفقيا وعموديا، حياته تشبه سيرة خرافية تفترق عن سير الكتّاب المنبوذين والملعونين.
تعرض الرجل في حياته إلى مجموعة متواصلة من الكوارث والأمراض التي لم تبارحه، أوجاع في العين قادته إلى العمى، ومرض السيلان، و11 عملية جراحية، بالإضافة إلى كل هذه الكوارث الشخصية أُصيبت ابنته لوسيا بمرض عقلي، فضلا عن مشاكل اقتصادية لم تتوقف إلى درجة أن الرجل عانى الجوع أثناء إقامته في باريس بالرغم من حصوله على عمل كصحافي. وأكمل كتابه بعون من أصدقائه الذين أرسلوا إليه النقود على امتداد سبع سنوات لينهي كتابه، أعظم كتب اللغة الإنكليزية بحسب تعبير نقاد كثيرين.
كان احتفال زيوريخ هذه السنة فرصة لإعادة التذكير بما تعرّض له الكاتب ونصه من منع ومصادرة واضطهاد من جهات وبلدان كثيرة أولها بلده أيرلندا
الصورة التي لا تفارقني في حياة جيمس جويس هي جنازته التي اعتذرت السفارة الإيرلندية عن حضورها، أو تلبية رجاء زوجته نورا وعائلته بنقل جثمانه لدفنه في مسقط رأسه دبلن.
تعرّض الرجل في حياته ومماته إلى تجاهل بلاده، واضطرت عائلته إلى دفنه في زيوريخ المدينة التي احتضنت قبره في واحدة من أجمل مقابرها (مقبرة فلونتيرن) لا ينغص هدوء ساكنه سوى أصوات حديقة الحيوانات المجاورة.
لا تزال المدينة متمسّكة بقبره، على الرغم من النزاع مع دبلن التي تريد استرجاع رفاته لأغراض سياحية، وترفض زيوريخ السماح بنقل الجثمان بذريعة أنها احتضنت جويس حين كان بحاجة إلى مكان آمن للعيش.
أمّنت زيوريخ المأوى لجيمس جويس في أزمنة مختلفة من حياته. اعتنت بآثاره في المدينة، ومنحت نكهة خاصة للاحتفال بيوم جيمس جويس في 16 يونيو/حزيران، وهو اليوم الذي تجري فيه كل أحداث روايته الأعظم “عوليس” عام 1904، ويقال إنه اليوم الذي التقى فيه جويس محبوبته وزوجته نورا التي رافقته في حياته القلقة من دبلن إلى مدن أوروبية ليستقر به المقام ويموت ويدفن في زيوريخ يوم 14 يناير/كانون الثاني عام 1941.
ويسمّى هذا اليوم أيضا بـ”يوم ليوبولد بلوم” بطل “عوليس” التي يخبرنا فيها جويس تفاهات وتفاصيل يومية عن حياة معقدة ومتشابكة مع غابة من الرموز يحتاج حلها إلى وقت طويل من البحث العميق في تاريخ الأديان والأساطير واللغة الإنكليزية.
لا تزال “عوليس” تثير شهية الباحثين والمنقبين عن الأعمال الصعبة التي لا يمكن اختصارها ببساطة، لا تقف أهميتها عند تأسيسها لتيار الوعي مع “البحث عن الزمن المفقود” لبروست، و”الصخب والعنف” لوليم فوكنر، بل تمتد لمساعدة علماء النفس في أبحاثهم واكتشافاتهم وهو الدور نفسه الذي قامت به روايات دوستويفسكي، لذا يجري التذكير دوما بأن جيمس جويس لا يقل أهمية عن دوستويفسكي، ويضاف إليهما شكسبير الذي كتب بلغته.
حماستي لحضور هذا الاحتفال مردها إلى حرماننا من احتفالات تشبهه. أرسل المنظمون رسالة بريدية يوضحون فيها أننا نستطيع إحضار طبق محلي من طبخنا. فكرت في أن البرغل ببندورة طبق مناسب، مشبع بزيت الزيتون، ويعبق بذاكرة طفولتي البعيدة. تخيلت لو كنت صديقا لجيمس جويس الغارقة روايته بالنقانق والأطباق الأيرلندية الدسمة، المشبعة بلحم الخنزير ودهونه، كنت متأكدا من أنه سيحب هذا الطبق، خاصة أنه عانى طويلا من الأمراض المزمنة.
لا تزال المدينة متمسّكة بقبره، على الرغم من النزاع مع دبلن التي تريد استرجاع رفاته لأغراض سياحية، وترفض زيوريخ السماح بنقل الجثمان بذريعة أنها احتضنت جويس حين كان بحاجة إلى مكان آمن للعيش
في احتفال زيوريخ هذه السنة كانت اللغة العربية إلى جانب اللغة الروسية والأوكرانية، ضيفة الشرف، قرأت المقاطع التي خصصوها للقراءة بكل اللغات. كما قرأوا نصوصا وجزءا من رسائله إلى زوجته نورا، ورسالة مدير دار “راندوم هاوس”، ومقاطع من جرائد قديمة حين اشتعلت معركة منع الكتاب.
كان الأسبوع الذي سبق يوم الدعوة فرصة لي لمحاولة إعادة قراءة “عوليس” بعد أكثر من عشرين سنة من قراءته للمرة الأولى. وعلى الرغم من أني لا أحب زيارة قبور العظماء، إلا أن قبر جيمس جويس أغراني لقربه من منزلي، وبسبب تخيلي ابنته لوسيا تسير شبه وحيدة مع عدد قليل من المشيعين في جنازة أبيها الرجل الآبق الذي تخلى العالم كله عنه، وسط رياح عاتية وصقيع وثلوج كثيفة، دفنته في قبره الذي تحول إلى مزار لعشاقه، وتُركت الفتاة المعتوهة إلى مصيرها.
طوال الاحتفال كنت أفكر في قوة الكتابة وفي أن الحياة غير عادلة قطعا، خاصة مع الذين يتأخر العالم في اكتشاف تأثيرهم الهائل على خيال البشرية الذاهبة في دعم وحشية الذكاء الاصصناعي المقبل الذي ينذرنا بأنه ذات يوم سيكتب كتابا يقارب ويشبه “عوليس”، ويكون له الأثر نفسه.
فكرت أيضا في أن الاتفاق على يوم 16 يونيو/حزيران هو ذريعة، كان ممكن الاحتفال يوم مولده، أو وفاته، لكن المهم هنا هو الاحتفال، كنت أسأل نفسي ومجموعة العشاق يستمعون إلى عازف غيتار وعازفة كمان يعزفان أغنيات قديمة قد تكون وردت في كتاب “عوليس” لماذا لا يحتفل العرب بكتّابهم بالطريقة نفسها.
لماذا لا نبادر جميعا (وهذه دعوة) لاعتماد يوم نحتفل فيه بنجيب محفوظ. لا يكفي توزيع جائزة نجيب محفوظ يوم مولده في 11 ديسمبر/كانون الأول التي تمنحها الجامعة الأميركية في القاهرة مشكورة. لماذا لا نحتفل بمحمود درويش وغسان كنفاني ونزار قباني وسعد الله ونوس وبدر شاكر السياب وغيرهم كثر؟ على أن يكون يوم مولدهم أو وفاتهم، أو أي يوم آخر يجري الاتفاق عليه ذريعة أخرى، نقرأ نصوصهم في المكتبات والمدارس وفي أماكن عامة وخاصة، ونحرّض النقاد على دراستهم من جديد.
لا نملك سوى الأمنيات.
نشرت على المجلة هنا