حياة عائلات سورية حلبية لنحو مئة عام

يروي الكاتب السوري خالد خليفة في روايته “لم يُصلّ عليهم أحد” جوانب من تاريخ مدينة حلب السورية في القرن التاسع عشر وفي النصف الأول من القرن العشرين. جوزيف كرواتورو يستعرض ترجمتها الألمانية.

مدينة مألوفة للأسف مع الكوارث: الإفطار مساءً في حلب التي دمرتها أيضاً القنابل الروسية، صورة التقطت نهاية نيسان/أبريل. الصورة: Picture Alliance

من الممكن أن تكتسب بعض الأعمال الأدبية أهمية مذهلة بالنظر إلى مجريات الزمن، حتى وإن لم يكن ذلك بالضرورة في نية المؤلف. وهذا ينطبق أيضًا على رواية الكاتب السوري خالد خليفة الأخيرة “لم يُصلِّ عليهم أحد”، التي صدرت أصلًا بالعربية في عام 2019 وتستحضر حقبة منسية من تاريخ حلب، وها هي قد صدرت باللغة الألمانية في ترجمة رائعة من المترجمة الألمانية لاريسا بندر.

حلب، التي كانت في السابق مدينة نابضة بالحياة ومتعدِّدة الأعراق والثقافات وقد تحوَّلت أجزاءٌ كبيرة منها إلى أنقاض ورماد في الحرب الأهلية السورية وخاصة بسبب الغارات الروسية – أصبحت رمزًا مرعبًا يرمز لجنون الدمار الجامح، الذي بات ينفجر الآن في أوكرانيا: فعندما نبحث اليوم عن حلب على الإنترنت نصل بسرعة إلى ماريوبول الأوكرانية.

لقد شهدت هذه المدينة السورية التقليدية ومحيطها أوقاتًا مضطربة ومدمِّرة في القرن التاسع عشر وفي النصف الأوَّل من القرن العشرين، بالإضافة إلى فترات ازدهارها. وخالد خليفة يعيدها إلى الحياة من خلال تأليفه روايته حول عدة أحداث درامية – جميعها خيالية مخترعة مثلما أشار في حوارات له مع صحف عربية، يشكِّل كلٌّ منها نقطة انطلاق لمختلف أجزاء الرواية المنفصلة عن بعضها زمنيًا.

ذكريات من ماضي حلب الثري والمتعدِّد الثقافات: يصف الكاتب السوري خالد خليفة من خلال سرده قصص عدد من عائلات حلب تطور سوريا خلال فترة تمتد لنحو مائة عام.

وتدور أحداث هذه الرواية في فترات زمنية مختلفة تنتقل ذهابًا وإيابًا بشكل أساسي بين عامي 1881 و1951 حول قصص حياة وحبّ نحو ستة أشخاص وأقاربهم وأحفادهم. وكثيرًا ما تتشابك خيوطها السردية لتتفكك من جديد وتتضح، وتظهر لفترة وجيزة عدة شخصيات ثانوية لتختفي تمامًا في أغلب الحالات.

قصة عن أحداث مزدهرة ومضطربة وخيالية تمامًا خلال مراحل من تاريخ حلب

وتبدأ الرواية بفيضان حدث في عام 1907 وفاضت فيه مياه نهر الفرات على ضفتيه وخرَّبت قرية حوش حنا غير البعيدة من حلب. شخصان من أبطال الرواية يفقدان أحباءهما، كانا مسافرين في مكان آخر ساعة وقوع الكارثة.

حنا غريغوروس مسيحي سوري وابن عائلة من كبار ملاكي الأراضي وقد سُميت القرية على اسمه. وهو الآخر تألم على وفاة زوجته وابنه. وجرف النهر ابن صديقه المقرَّب العربي المسلم زكريا بايزيدي، بينما نجت زوجة صديقه الكردية شاها بصعوبة. والناجية الأخرى الوحيدة هي المسيحية نصار ماريانا، وهي ابنة وكيل أراضي حنا غريغوروس – يظهر دورها في مرحلة متأخرة من أحداث الرواية.

وهذ الكارثة، التي يسهب الراوي العارف بكلِّ شيء في وصف آثارها على المتضرِّرين، والذي يطغى منظوره على الرواية كلِّها تقريبًا، تمثِّل نقطة تحوُّل. فبعد هذا الطوفان لم يعد حنا وزكريا وشاها كما كانوا؛ شاها تلقى حتفها نتيجة ذلك بعد فترة قصيرة.

ويعيدنا القسم الرئيسي التالي من الرواية إلى عام 1881؛ وهذا القسم يُعرِّف القارئ بفترة طفولة وشباب الشخصيات الرئيسية. حنا أخذه والد زكريا المحاسِب ليعيش عنده بعد أن نجا وحده من مذبحة ارتكبها ضبَّاط عثمانيون بحق عائلته. ويصبح بسرعة الصبيَّان حنا وزكريا وأخته سعاد أصدقاء مقرَّبين من الصبي اليهودي عزة إسطنبولي ورفيقه المسيحي ويليام عيسى، الذي تنتهي حياته في مرحلة مبكِّرة بشكل مأساوي بسبب حبِّه الممنوع لفتاة مسلمة، وهكذا يحدِّد الثلاثة الباقون الجزء الأكبر من أحداث الرواية.

لقد نجح المؤلف خالد خليفة بشكل مثير للإعجاب في نسج مسارات حياة هذه الشخصيات في مختلف مراحلها على كلّ خلفية زمنية. ولكن مع ذلك فقد سلط الكاتب القليل من الضوء على الظروف الاجتماعية والسياسية في العهد العثماني وفترة الانتداب الفرنسي اللاحقة وكذلك فترة الانتقال إلى استقلال سوريا. وكذلك لا توجد في الرواية أية شخصيات محدَّدة بوضوح تجسِّد أنظمة الحكم هذه.

بانوراما لمجتمع حلب المندثر المتعدِّد الطبقات

وفي المقابل يعتبر الحبُّ والدين قوَّتين حاضرتين أكثر في الرواية. ويستلم حنا ميراثه كواحد من كبار ملاك الأرضي، ويصنع زكريا لنفسه اسمًا كمربي خيول، ولكنهما شخصان مشهوران بفجورهما. وعلى الرغم من أنَّهما الآن متزوِّجان ولدى كلّ منهما أسرة وأطفال، إلَّا أنَّهما ينغمسان في فجورهما داخل قلعة بنيت خصيصًا لهذا الغرض، حيث يستمتعان مع بنات الهوى. وينتهي مع سقوط الدولة العثمانية أسلوبُ حياتهما الفاجر، الذي يمكن قراءته أيضًا كرمز للعالم العثماني الذكوري المتشدِّد والمنخور نخرًا بالفساد.

ومن جديد تشهد منطقة حلب بعد عقد من الفيضان كارثة أخرى، حيث تعاني هذه المرة من المجاعة والوباء. وحنا، الذي كان شخصًا شهوانيًا فاسقًا في السابق، يُعيد اكتشاف نفسه الآن كمسيحي ويبني ديرًا في قريته. ولكن حنا، الذي حاولت الكنيسة السريانية الكاثوليكية مرارًا الاستيلاء على ممتلكاته، يبقى غير متديِّن.

وهذا لا يمنع ماريانا – آخر الباقين على قيد الحياة من ضحايا الطوفان والمسؤولة الآن عن الدير – من محاولتها اعتباره قدِّيسًا. وحماسها الديني وإلحاحها يتعبان حنا حتى النهاية بشكل لا يقل عن عذابه بسبب حبِّه الفاشل لسعاد، التي لم تتغلب قَط في الواقع على حقيقة أنَّهما لم يصبحا زوجًا وزوجةً.

تمكَّن خالد خليفة بواسطة شخصيَّتها بشكل خاص من توضيح فترة التحوُّل من العهد العثماني إلى الحقبة الاستعمارية بالإضافة إلى مقاومة نتائج هذا التحوُّل: عندما تقوم سعاد المتحرِّرة بتنظيم عرض أزياء في حلب، يُدمِّر بعض المتعصِّبين المسلمين مشروعها هذا بحريق متعمَّد. ونفس هؤلاء الأشخاص مرتكبي أعمال العنف يقومون لاحقًا بإشعال النار في قلعة حنا وزكريا بمن فيها من العاهرات المسنات، اللواتي يعشن هناك.

لا ينجح خالد خليفة دائمًا في تشكيل أبطاله الرئيسيين من الناحية النفسية ولعل سبب ذلك يعود إلى العدد الكبير من الشخصيات في الرواية والانقطاعات المتكرِّرة في سيرهم الذاتية وكذلك الفترة الزمنية الطويلة، التي يحاول تغطيها. ولكن هذه الرواية تستحق القراءة وهي بالتأكيد مثيرة جدًا للإعجاب كونها تعرض بانوراما لمجتمع حلب المندثر المتعدِّد الطبقات.

ترجمة: رائد الباش

نشر على موقع قنطرة هنا

المصدر
قنطرة
زر الذهاب إلى الأعلى