يقول مارتن هايدغر: “إذا قبلت الموت في حياتي واعترفت به وواجهته مباشرة، سأحرر نفسي من قلق الموت وحقارة الحياة، وحينها فقط سأكون حراً في أن أُصبح نفسي”
لا أجد مقولة أشد قربا من هذه المقولة عندما أتذكر خالد خليفة، الشاب دائما، الروائي والسيناريست السوري الذي أحبه كل من عرفه وصادقه خلال حياته التي كانت مليئة بالفن الذي يعنى بالكلمة أو بالصورة على حد سواء.
وكما مات في يوم ما آرثر شوبنهاور على الأريكة وحيدا في غرفة الجلوس، كذلك فعل خالد الذي اختار دمشق فاختارته.
عندما يرحل عنا كاتب وإنسان متقد كخالد خليفة، تشعر فجأة بأن مساحة ملونة كبيرة كانت تغطي خلفية اللوحة التي شكلت حياتنا العامة، قد انمحت وتركت اللوحة بعدها أشد كآبة وأكثر قتامة، عندها فقط ستدرك بأن وجوده لم يكن مجرد مسلمة يمكنك أن تمر عليها في حياتك مرور الكرام، ولا بديهية من البديهيات.
هؤلاء من يصنعون الفرق، لأنهم يمتلكون القدرة على التحول لأم للجميع، والأم فقط من يفجع بها الإنسان عندما تغادره فجأة، لأنها كما الهواء النقي، حالة موجودة وقبلية حتى قبل أن نخرج للحياة ونتنفس هواءها.
هذه الأمومية المكتسبة، تتزين بألقاب مختلفة، لأنها لا تأتي بافتعال بل تتأتى بفعل العفوية فقط، ولذلك يصبح خالد خليفة “الخال”، ويتحول اللقب لشيفرة لا تقف أمامها حواجز عمر أو مستوى ثقافي أو فكري، ويصبح الخال محبوب الصغار ومحبوب الكبار، صديق النساء ورفيق الرجال، محبوب الشيوخ ومسعد القلوب، وهو الخال الذي كتب رواياته ليعبر عن الفقير، وينطق باسم مدن كبرى، والذي أبدع مسلسلات تعبر عن حالنا، ومقالات تؤثر في وجداننا، ولوحات نحب أن ننظر إليها وصورا فوتوغرافية تأخذ مكانها في قلوبنا.
قلة قليلة من يتمكنون من امتلاك تلك الشيفرة، التي لا تتعلق بالشهرة وحدها كما قد يعتقد البعض، أو بالنجاح والجوائز التي قد ينالها صاحبها “وهذا ما حصل عليه خالد خليفة مرارا وتكرارا بطبيعة الحال”، لكنها تتعلق بالروح وحدها، روح الفنان المحلقة، التي تطير بخفة في كل جلسة ومجلس وكأنها تودع الناس والأمكنة، لكننا لا نشعر برهافتها إلا بعد أن تطير نحو أبديتها تاركة وراءها ذكريات جميلة.
استعيد مقولة أبيقور الشهيرة: ما دُمت موجوداً فالموت غير موجود، وعندما سيوجد الموت لن أكون أنا موجوداً.
هكذا حل أبيقور مشكلة القلق من الموت، فتصالح معه.
لكن الموت بوجوده يترك للأحياء قلقا أشد وطأة عندما يغادر الأصدقاء.
أما بالنسبة لخالد، فقد كان موجودا، ومات موجودا بيننا..
قابلته قبل سنوات في مدينة اسطنبول، بتركيا، دخل متعبا ومرهقا لكنه لم يظهر أي علامات نكد أو تبرم.
كان قد ترك نافذة بيته المستأجر مفتوحة، فسرقت منه أوراقه وسرق الكومبيوتر الشخصي والحافظة وخلافهم.
اكتفى بإطلاعنا على الأمر كأن شيئا لم يكن رغم استشعاري للمرارة والغصة بين كلماته، وتخيلت حينها حجم القهر الذي يمكن لكاتب أن يعانيه حينما يفقد ما كتب خلال شهور. ثم نام، وما أن أفاق حتى تبخر كل الحزن، وعادت تلك الومضة التي تشي بشغف طفولي محبب للحياة في عينيه.
ترك الكاتب لنا ما تركه من أدب وفن، وغادر بسلام دون أن يرهق أحدا، وهذا ما سيرهقنا كثيرا.
غادر خالد، الخالد في قلوب أهله وأصدقائه ومحبيه وقارئيه.
غادرنا الخال جسدا، لكنه بقي صديقا وأخا وأما ولقبا وروحا حرة.