قبل سنوات تعرّض الروائي السوري، خالد خليفة لوعكة صحية خطيرة، تواصلت معه وقتها لأطمئن فقال لي جملة تلخص شخصيته كمحب كبير للحياة متصالح مع الموت في الوقت نفسه، قال: “وضعي الصحي ممتاز، عدت إلى التدخين كما كل رفاقي الذين لا يصدقون الأطباء إلى حين ينامون ليلتهم الأولى في العناية المشددة، شغفي بالحياة لم يتغير بل ازداد، وأؤمن دوماً بأنني إذا مت فأنا عشتُ كما ينبغي لي ككائن يحب الحياة إلى درجة الموت”.
كل من يعرف خالد خليفة يعرف بالتأكيد مقدار حبه للحياة، وكل من يقرأ له يعرف عدم خشيته من الموت. يطل الموت في أعماله كلها: “حارس الخديعة”، “دفاتر القرباط”، “مديح الكراهية”، “لا سكاكين في مطابخ هذه المدينة”، وبالطبع “لم يصل عليهم أحد” و”الموت عمل شاق” عمله الأشهر. يطل كصديق حميم وكنتيجة حتمية لا تحتاج لأسباب منطقية في بلاد كبلادنا. وحتى الناجين مما يجري لن يكونوا بالضرورة على قيد الحياة تماماً مثله هو وأبطال أعماله، يفكرون في الحب والأمل رغم أن “الحياة في المجمل ليست أكثر من مجرد انتظار للموت”.
قال لي مرة أنه يتعامل مع كل رواية جديدة باعتبارها روايته الأخيرة، لذلك يتمهل ويعمل ببطء “أحاول أن يكون وداعي للكتابة لائقاً”.
بمجرد أن تأكد خبر رحيله وتوقف قلبه المنهك بالأمس، امتدّت يدى تلقائيا لأعماله القريبة مني دائما، أقربها كان “لم يصل عليهم أحد”، كنت أعيد قراءتها بعد طوفان ليبيا متعجباً من قدرته على الوصف الدقيق للمأساة التي نتابعها على الشاشات، كان يصف ما نشاهده بدقه مذهلة كأنه يراه معنا، يصف طوفاننا الحالي المماثل تماماً لطوفانه المتخيل “فتح النافذة ورأى المشهد الذي لن ينساه في حياته، نهر هادئ يجري دون مبالاة منذ آلاف السنين لكنه قبل يومين ابتلع قرية كاملة، ابتلع سكانها، وطناجر مطابخها، والفرش والبسط، والحيوانات، لم يترك شيء، ورغم ذلك كان منظره فاتنا وبريئاً… لم يغب عن ناظره النهر طوال الليل، وبشغف كان ينتظر تلك المعجزة، أن يعيد النهر ما سلبه في ليلة الطوفان، أن يتقيأ الغرقى وأشياءهم، لكن لم يحدث أي شيء”.
هنا مكاني
هل يخاف من الموت من رفض الخروج من سوريا خلال سنوات الحرب الماضية؟ عندما سألته مرة عن إصراره على البقاء هناك، رغم الفرص المتعدّدة للخروج تعجب من السؤال لأنه يرى أن الطبيعي أن يصر على البقاء وليس الخروج، قال: “هنا مكاني الطبيعي، هنا ما تبقى من رفاقي، خروجي لا علاقة له بكم الفرص التي تتيح لي العيش خارج البلاد، نعم لدي الكثير من هذه الفرص لكنني عشت كل عمري هنا ولن أترك بلدي في هذا الوقت الصعب، ومن يعتقد بأن الكاتب هو مواطن سوبر يجب أن يعيد حساباته، دمنا ليس أغلى من دم موطنينا”.
لم تختلف رؤيته كثيراً خلال كل تلك السنوات، ولم يكن يقول تلك الكلمات كثوري أو مناضل بل كمثقف ساهمت الكتابة في تكوينه الشخصي، وحررته من مفاهيم كثيرة، “ساهمت في حريتي، كما ساهمت بجعلي كائناً أكثر هشاشة وأقل كبتاً وأكثر إنسانية”. دوره أن يمتلك بوصلة تقوده للدفاع عن دم شعبه وحلمه في الديمقراطية والمشاركة في هذه الثورات، بدلاً من الترفع والاكتفاء بالتنظير عن شكل ثورة متخيلة موجودة فقط في الأذهان، دور المثقف كما يفهمه “يتجلى بفضح كل من يريد مصادرة الثورات والحلم بدولة مدنية حرة، الشعب الثائر لم يطلب الكثير من مثقفيه، فقط طلب أن لا يخونوا الدم، لكن على ما يبدو كان هذا الطلب كبيراً لم يستطع بعض المثقفين التخلي عن مكاسبهم مقابل هذا الإخلاص للدم”.
كان يتصرف على طبيعته بلا ادعاء أو تصنع باعتبار أن ما يفعله هو طبيعة الأشياء في هذا الوقت الصعب، يعيش ككل السوريين لحظات صعبة في ظل الحرب في انتظار ضربة ربما تأتي في أي وقت ومن أي اتجاه، لكنه ليس انتحارياً أيضاً أو رافضاً للحياة، بل كان على العكس يصر طوال الوقت على أن الهم الأول هو المحافظة على الحياة قدر الإمكان، لكن كانت هناك مفردات جديدة تفرض نفسها في هذه الظروف حيث كل شيء صعب، منها القلق على ما تبقى هناك من أصدقاء، وكان يحب أن يطمئن على سلامة الجميع، “في الحياة القاسية تعتاد أن تتقاسم كل ما لديك مع من حولك، الأشياء تفقد قيمتها، كما حس الملكية يتراجع إلى أدنى درجاته. هناك الكثير من التفاصيل أصبحت من البديهيات، الخلاص الفردي يتراجع كثيراً والشعور بأنك تتقاسم الموت مع كل السوريين يولد لديك إحساس جديد بالانتماء”.
حلب مدينته المعاقبة
حلب هي مكانه الأثير رغم أنه كان يعيش بعيداً عنها منذ ثلاثين عاماً، لكنها لم تنته من داخله، كان يقول دائماً إنها المدينة التي ظلمت أكثر من كل المدن، وأن روايات كثيرة عن المدينة وريفها مازالت هناك تقبع داخله وتنتظر، يؤمن بأنه ذات يوم سيجري اكتشافها من جديد وستكون متحف حكايا لن يتوقف رويها وسردها. لذلك عندما كتب “لم يصل عليهم أحد” لم يخف هدفه الذي كان واضحاً من البداية؛ رواية عن المدينة وليس رواية تاريخية، “هذا الكتاب أعتبره سرديتي الخاصة لمدينتي. أردت أن تكون أنشودة حب حزينة لمدينتي المعاقبة عبر تاريخها الطويل، ولم يتوقف عقابها حتى الآن”.
شغب الجوائز
يجيد خالد خليفة تحويل كل شيء لخدمة الكتابة، كان ينظر للجانب المشرق من كل التغييرات التي جرت حوله، باعتبارها كونت مادة أولية للكتابة تكفي خمسة أجيال على الأقل، تحسست الكتابة التغييرات وتوقع أن تكون صاعقة ومختلفة خلال سنوات قليلة، على يد تيارات جديدة يقودها مجموعة كتاب شباب لديهم أفكار طازجة “الآن يجب أن يتوقف الضجيج كي تبدأ الكتابة الحقيقية في الظهور، لكن المهم أن الكثير من الكتاب الذين تربعوا على عرش الكتابة بقوة الديماغوجيا والعلاقات أو ما أسميهم الكتاب المفروضين بقوة السيف سينسحبون لصالح الكتابة الجارحة الحقيقية التي تساهم فعلا في إعادة طرح الأسئلة وخلخلة السرد الراهن وثباته”.
حتى الجوائز التي كثيراً ما اعتبرها خارج الكتابة، اعترف أكثر من مرة بحبه لها وإن لم يسع لحصدها، يرى أنها شيء يحتاجه الكاتب أحياناً ليدافع عن نفسه، خاصة إذا كان هذا الكاتب لا ينتمي أو لا يريد الانتماء إلى شلل الفساد، لكنها في النهاية بالنسبة له شيء لا يجب التوقف عنده طويلاً، يكفي الاحتفاء مع مجموعة الأصدقاء المقربين واعتبارها ضربة حظ جيدة، ثم نسيانها.
فاز بجائزة نجيب محفوظ واعتبرها من أفضل لحظات حياته لأنه نال التقدير من بلد يحبّه وحاز جائزة لم يتقدّم لها، وترشح ضمن القائمة الطويلة لجائزة الإندبندنت العالمية عام 2013، وجائزة “ناشونال بوك أوورد” الأميركية، ووصل للقائمة القصيرة لجائزة البوكر العربية مرتين، وهي الجائزة التي علق عليها كثيراً باعتبارها الأكثر إثارة واستقطابا للاهتمام، واقترح نشر محاضر جلسات لجان التحكيم كاملة بعد عدد محدود من السنين لإنهاء الجدل والاتهامات المصاحبة لكل دورة، وقال صراحة: “لا أُخفي شغفي الشخصي بقراءة محاضر لجان التحكيم في الدورة الأولى التي كانت الأكثر حرارة حتى الآن التي فاز فيها عن استحقاق الروائي الكبير بهاء طاهر عن روايته “واحة الغروب”، وكخاسر أود أن أعرف كيف نظر المحكمون إلى عملي “مديح الكراهية” وإلى أعمال رفاقي في القائمة القصيرة، كما لديّ شغف لأعرف ماذا حدث في الدورات اللاحقة التي جرى فيها تجاهل كتبي الأخرى”.
ما كتبه لم يكن رغبة في تحقيق المزيد من الجوائز -المستحقة بالمناسبة- بقدر رغبته في تحقيق المزيد من العدالة.
كان آخر تواصل بيننا قبل أيام عقب ترشحه مجدداً بالقائمة الطويلة لجائزة “ناشونال بوك أوورد” الأميركية فئة الأدب المترجم لعام 2023 عن روايته “لم يصل عليهم أحد”، وعدني بحوار طويل إذا قدر له الفوز لكن القدر لم يمهلنا.
نشرت على موقع المدن هنا