تسعة وخمسون عاما، كانت كافية لمشاغب معتد بحريته وتوقد ذهنه وبامتلاكه أدوات الكتابة الناصعة كخالد خليفة، أن يشاغب على حراس الخديعة ويفضح خداعهم، الذي أوقع على كاهل السوريين عبئاً ثقيلاً، منطلقاً مما أصاب مدينته حلب، بوصفها مثالاً لما أصاب مناطق الأكثرية السنية من جرائم ليفضحها للسوريين والعرب وخمس دول، ترجمت إليها رواياته، وكلها تتمحور حول أشكال معاناة السوريين، مع الاستبداد وانتهاك الحريات، بدءاً من صراع الثمانينيات بين سلطة حافظ الأسد وخصومها من السلفيين الطامحين إلى استبداد عقائدي بديل، وقد انطلقوا من فكرة انتزاع حزب البعث بقيادته (الأقلوية) لحقوق الأكثرية الحصري، بإدارة البلاد والسيادة عليها وطموحهم بإقامة نظام حكم يقوم على أيديولوجية عقائدية سنية، تستند إلى سردية مظلومية حقيقية مأزومة، بدأت عام 1963 ثم تصاعدت بعد انقلاب حافظ الأسد عام 1970 من القرن الماضي، وحيث وضبّ سلطاته بتدرج طائفي يجلس في قمته الأضيق الأقارب والموالون من الطائفة العلوية، ثم تتوسع نسبياً نحو بقية الطوائف والهوامش، تبعاً لمدى الولاء للقائد والانتماء إليه.
في عام 1964 ولد خالد لأسرة متوسطة، امتلكت معصرة زيتون حجرية في قرية (مريمين عفرين) المتداخلة مع بساتين الزيتون، ومن جامعة حلب نال شهادة في الحقوق، ثم انتقل إلى دمشق 1999 وعاش فيها كليبرالي منفتح اجتماعيا وثقافياً مع لفيف من أصدقائه الكثيرين، وكمعارض سياسي راح يؤكد نزوعه العميق نحو الحرية ودولة الحق والقانون، ويدافع عن المظلومين وعامة الشعب، أمام تغوّل الاستبداد الأسدي بنسختيه الشائهتين للأب المؤسس والوريث الغر، الذي قاد البلاد والعباد إلى مسار الدم والخراب العام. ولم يكن الكاتب الحر ليتغاضى عن تلك الفظائع قديمها وما استجدّ منها، بل راح يفضحها، ولما حظرها النظام لم يكترث بل أعلن بكل ثقة: (إنّ للكتب أجنحة تطير) إلى القراء وتتحدى حواجز الطغاة. وفي سوية واحدة فضح التزمت الديني والاتجاهات السلفية، التي نشطت في مواجهة استبداد نظام الأسد في الثمانينيات، فخلف صراعهما كوارث جمة وأهدر أعمار وطاقات الكثير من الشباب السوري.
تميزت روايات خالد خليفة بعناوين خارجة عن المألوف كما في «حارس الخديعة» 1993 وبتوجه إنساني عميق كما في «دفاتر القرباط» 2000 التي أدت إلى تجميد عضويته في اتحاد الكتاب لأربع سنوات، ثم كانت «مديح الكراهية» 2006 التي عمل عليها 13 عاما ولما منعت في سوريا أعاد نشرها في لبنان. وهي الرواية التي صنعت مجد خليفة الروائي، حيث وصلت إلى القائمة القصيرة للجائزة العالمية للرواية العربية (بوكر) 2008 وإلى القائمة الطويلة لجائزة «الإندبندنت» للأدب الأجنبي 1913 واختيرت من بين 100 رواية وترجمت إلى عدة لغات. ثم أصدر «لا سكاكين في مطابخ هذه المدينة» الحائزة جائزة نجيب محفوظ للرواية في القاهرة 2013، وبعد إصابته بالجلطة القلبية أصدر «الموت عمل شاق» 2016 وأخيراً «لم يصلّ عليهم أحد» 2019. كما كتب خلال تلك المدة سيناريو «قوس قزح» ومسلسل «سيرة الجلالي» وفيلم «باب المقام» ومقالات سياسية ينتقد فيها الواقع السياسي، وأخرى أدبية ينتقد فيها بعض كتاب الرواية وموضوعات أخرى.
وانتهى خالد خليفة ميتاً على (الكنبة) بالسكتة القلبية في حي ركن الدين الدمشقي، في 30/ 9/ 2023 فحضر حوالي ثلاثمئة من أصدقائه ومحبيه المفجوعين بموته المبكر. بينما تغيّب عن تشيعيه رموز السلطة وملحقاتها واللائذون بخوفهم، وخيراً فعلوا. ودفن المرحوم خالد في دمشق بعيداً عن بيته وقريته، ولم تنقل جثته كما في «الموت عمل شاق» حيث تخيل عملية نقل الميت من دمشق إلى حلب، وتفسخ جثته بسبب حجزه من قبل الأمن، لأن صاحبها معارض للنظام.
خالد خليفة وإشكالية العناوين
ابتسامة خالد خليفة الودودة كانت صلة الوصل الأولية له بكل أصدقائه ومعارفه ومنها إلى عمق أغواره وثراء ثقافته ووعيه بالمحيط السوري والدولي، الذي شقّ منه طريقه مبلوراً هويته الخاصة، فغدت سمة له وعلامته الفارقة، وعبرها راح يطلق عناوين زلزالية، قلبت موازين التعبير الرتيب، ووضعت القراء أمام تحد مفهومي، لأنها تنطوي على نوع من الفانتازيا والتغريب وسيميائية اللغة وفلسفتها، وتدفع بالمعنى وضده الجدلي، أخذا وعطاء. فـ»مديح الكراهية» ليس مجرد عتبة نصية كثيفة وقصيرة، بل هي نص شديد الكثافة ملغّم بدلالاته التعبيرية وإشاراته اللماحة، وهنا تكمن حيوية لغة الإبداع الأدبي الاستعاري التي تدفع بالقارئ إلى متابعة (شيفرة العنوان) في مجرى السرد الروائي، فلا يكاد يصل إلا إلى اكتشاف احتمالي، فالعنوان (مديح الكراهية) يضعنا أمام تركيب لغوي مكون من حدين متناقضين جدلياً، هما المديح والكراهية، وبتفاعلهما يقودنا السرد وتقاطع الشخوص مع الأحداث في فضاء الرواية إلى (الكراهية) كعاطفة مضادة للحب وموازية له، أو ربما هي وليدته القابلة للنمو والانقلاب والتبدل، في مناخ خصب متجدد. وحينما يجري استثمار الكراهية في تعميق العداوة بين الخصمين، كما في العداوة بين نظام حافظ الأسد والطليعة المقاتلة، المعبر عنها بطالبة الطب السجينة وهواجسها وتحولاتها اللاحقة. وبمستوى مواز سنسأل عن «حارس الخديعة» و»الموت عمل شاق» و»لم يصلِّ عليهم أحد» التي يعود الكاتب فيها إلى حلب في القرنين الثامن والتاسع عشر ويغوص فيها في التاريخ بعيدا.
أما في العنوان «لا سكاكين في مطابخ هذه المدينة» فتكمن إشكاليته في احتمالاته المتعددة، إذ قد يتبادر إلى الذهن أن العنوان إشارة إلى البخل أو الحرمان والعدم وقد نأخذ منها مفهوم الطبخ الرمزي فهم لا يتعاطون بالشأن العام مثلاً، وهذه احتمالات يصعب تأكيد أي منها، ليس لعدم إيفاء العنوان حقه في المتن الروائي، بل لأن كلها واردة وغير حتمية، وسوف لن يغير من بعض هذه الاحتمالات إعلان الكاتب أنه أخذ العنوان من مقولة لأمين الحافظ الرئيس السوري عام 1963 الذي أمر بقصف الجامع الذي استعصت فيه مجموعة من السلفيين (الطليعة المقاتلة) بقيادة مروان حديد في حماة، ثم أعلن الرئيس بعدها: (لن أترك حتى سكينا في مطابخهم). وحيث لا يكفي استخلاص الإجابة السريعة في «الموت عمل شاق» من خلال ظلال الموت التي هيمنت على الكاتب بعد إصابته بالجلطة والتفكير بنقل الجثمان وما يعنيه الدفن في مدافن العائلة بالنسبة لعائلة ريفية، لأن الرواية ذات بعد وجودي إنساني، تتشابك أبعاده بين الموت والحياة وصراع الوجود والعدم.
نشرت على القدس العربي هنا