الخال باق في دمشق.. خالد خليفة أو “الخال” كما يحب أصدقاؤه تسميته، باق رغم الظروف الراهنة في العاصمة السورية. حيث لم يتمكن أخيراً من السفر لحضور حفل توقيع روايته الجديدة “لا سكاكين في مطابخ هذه المدينة” الصادرة عن دار “العين” المصرية في 25 حزيران العام الجاري. لتكون لحظة حفل التوقيع مشابهة للحظة المركبة بين سورية ومصر في هذه الأيام. فبحضور عدد من الأصدقاء السوريين والمصريين، حاول خالد خليفة مواكبة حفل توقيع روايته عبر “السكايب” إلا أن انقطاع الكهرباء حال حتى دون هذا التواصل البسيط.
يحفر صاحب “مديح الكراهية 2006” في روايته الجديدة عميقاً في التاريخ الحديث لمدينة حلب السورية. مستحضراً لحظات حسية، ومفاصل أساسية من تاريخ عاصمة الشمال السوري. عبر حكاية عائلة الراوي الذي يتطابق تاريخ ولادته مع استلام حزب البعث العربي الاشتراكي السلطة في العام 1963. لتكون حياة الشخصية والعائلة بمجملها، سيرة موازية لحياة الحزب في السلطة، وصورة سلبية لمصائر شخصيات عاجزة ومشلولة قبالة التحول الذي عجزت عن الوقوف في وجهه.
وفق هذه المعطيات تحاول “سوسن” الأخت الكبرى لشخصية الراوي تحقيق خرق بالعلاقة مع لحظة سوريا التاريخية. تنضم الفتاة الحلبية إلى مظليات سرايا الدفاع، وتكتب تقارير بفتيات الجامعة من “عميلات الرجعية” كما يسميهن الحزب. لتتمكن بعد ذلك بأنوثتها الكامنة تحت زي المظليات العسكري من إغواء “منذر” القيادي الشاب في سرايا الدفاع والمقرب من زعيمها “رفعت الأسد”.
من دبي التي ترحل إليها مع منذر، تصل سوسن مشرّدة إلى باريس، لتعود بعدها إلى حلب مع جسد ثلاثيني بدأ بالترهل، وروح هي كما روح المدينة، تعبت من البحث عن هوية لها تحت الظل الثقيل لسياسة الخوف والاستبداد، لتداري نفسها بعملية رتق بكارة رمزية، لن تنجح في إعادة حيويتها السابقة، إلى روحها أو جسدها.
في سرد خليفة غير المنضبط بخط زمني واضح، تتزوج الأم سليلة العائلة البرجوازية، من رجل ريفي يهجرها وأبناءها الأربعة ليهاجر إلى أمريكا مع “إيلينا” العجوز الأمريكية. الأم ستحاول المحافظة على تقاليدها الصارمة وسط الحي الريفي حيث يجاورهم فيه “الرفيق فواز” وأخوته الذين لا تهدأ الأغاني الحزبية الصادحة من بيتهم في كل المناسبات.
تحاول الأم وسط هذا الجو ترتيب بيتها الداخلي بأثاث مستعمل لكن عريق، أو المحافظة على الشكل الأنيق لأولادها، لتضيع محاولات الأم عبثاً. كما هو حال مدينة حلب التي تحاول التمسك بشيء من عراقتها وسط موجة التحولات الديموغرافية والعمرانية التي تصيبها. “شوارع الجميلية تغيرت أيضاً، بيوت مهجورة، بنايات جديدة بنيت على عجل، فقدت الشوارع الضيقة أشجار الكينا التي كانت رائحتها تزكم أنوفنا حين كنا أطفالاً نأتي في زيارات قليلة إلى بيت جدي، نتحمل خلالها نظرات احتقار خالتي ابتهال كوننا أبناء رجل ريفي”، صفحة 120.
في مدينة صاحب “دفاتر القرباط 2000” يمر خبر عابر عن “رجل أحرق زوجته وأطفاله الأربعة ثمّ انتحر بسكين المطبخ، صارخاً في وجه جيرانه الذين يراقبون ببرود: “إنّ الموت حرقاً أكثر شرفاً من انتظار الموت جوعاً”، سائلاً بحرقة: “ألا توجد سكاكين في مطابخ هذه المدينة؟”، صفحة 212.
هي المدينة ذاتها التي من الممكن أن يذبح سكانها أنفسهم وأولادهم، قبل أن ينجحوا بشكل عملي في مواجهة الواقع الذي يعيشونه والذي يتداخل الاستبداد في تفاصيله والفقر كذلك، وشعور الوحدة والعزلة عند شخصيات تركت احتمالات حياة لا منتهية أمام أعينها، لتعود وتستقر في المدينة التي تهوى. مثل الأستاذ جان عبد المسيح الذي ترك زوجته وحياته في جنيف، ليعود إلى حلب معتكفاً في رعاية والدته وإعادة ترجمة أعمال بلزاك!
ينجز السيناريست والكاتب السوري في روايته الرابعة وثيقة شعرية عن تاريخ سوريا الحديث. التاريخ الذي يتحرك ببطء منذ ولادة شخصية راوي الأحداث واستلام البعث للسلطة، وصولاً إلى منتصف العقد الماضي. لتقبع شخصيات الرواية تحت جدار تاريخها السوري السميك، الذي لا يحوي إلا فجوات ضئيلة للحنين أكثر منها للأمل. “مرض الحنين استبد بالكثير من أهالي المدينة، مجموعات كبيرة تجتمع لتتذكر الماضي، لا يستطيعون شتم الحاضر المثقل بالخوف فيتذكرون الماضي بنوع من التشفي”، صفحة 208.
نشرت على المدن هنا.