خالد خليفة: حقاً إن الموت عملٌ شاقٌّ 

كم تمنيت أن يكتب عن دمشق التي عاش فيها ردحاً من الزمن، لكنها لم تلهمه ربما. كم أتمنى لو أنه بقي معنا أكثر. ما زلت في صدمة وفاته أشتهي أن يكون الخبر إشاعة مغرضة.

لم يكن خالد خليفة روائياً فحسب، كان روائياً وشاعراً وتوجّه أخيراً إلى الرسم وأبدى شغفاً بهذا الفن. وكان يخطط لمعرض قريب، لكن الوقت لم يسعفه للأسف. ككاتب، ترك خالد إرثاً أدبياً كبيراً، تُرجم في غالبيته إلى الكثير من لغات العالم. أحياناً، نتجول بين عباراته ويحيّرنا الواقع والخيال حتى نتبين أننا لا نريد أن نعود إلى الواقع.

حين انضممت إلى ورشة الكتابة التي أدارها، كنت متحمّسة جداً. ولكن هذه الحماسة بهتت تدريجياً وتحوّلت إلى هوس بشخصية خالد خليفة. بعيداً عن تواضعه، كيف بإمكان كاتب بهذه الشهرة أن يتحول إلى صديق من المحادثة الأولى؟ كانت لديه هذه الأريحية في النفاذ إلى روح محدّثيه من دون أي عوائق. وكان سروره يكمن في بث الحماسة حوله بكل بساطة. 

أدار خالد خليفة الكثير من ورشات الكتابة في المدن السورية كالسويداء ودمشق، فبنى المزيد والمزيد من الصداقات. إحدى ورشات الكتابة التي أدارها، كانت لمجموعة من السيدات من مختلف الأعمار في مدينة السويداء بعنوان “نكتب لننجو” بالتعاون مع القاصة سلوى زكزك.

ولد خالد خليفة في حلب وتوفي وحيداً في دمشق ولم يحتفل بعد بعامه الستين، مع أنه كان دائماً محاطاً بمعجبيه وأصدقائه. بقيت عفرين، موطن أجداده، في ذاكرته و ذاكرة المشاهد الخلفية لكتاباته.

تخرّج في كلية الحقوق في جامعة حلب ولم تفلح ضغوط أسرته في إقناعه بممارسة المحاماة. كان قد اقتنع أنه يريد أن يكتب فقط. وهكذا عزل نفسه في غرفته لمدة خمس سنين، خرج بعدها يحمل في جعبته ثلاثة مسلسلات ورواية “دفاتر القرباط”، وهذا الوجع لازمه طوال عمره.

ابتدأ مشواره مع الكتابة ولم تكن الحياة سهلة لكاتب متمرّد في بلد مثل سوريا.

 في رصيده ست روايات (حارس الخديعة 1993، دفاتر القرباط 2000، مديح الكراهية 2008، لا سكاكين في مطابخ هذه المدينة 2013، الموت عمل شاق 2016، ولم يصلّ عليهم أحد 2019). تُرجمت كتبه إلى الإنكليزية، الفرنسية، الإيطالية، الألمانية، النرويجية، الإسبانية وأخيراً التركية. 

له مجموعات قصصية هي “حكايات قصيرة”، و”حكايات أخرى قصيرة”، وكتب للتلفزيون أعمالاً مهمة مثل سيرة آل الجلالي وقوس قزح، ظل امرأة، زمن الخوف، وهدوء نسبي، إضافة الى عشرات المقالات والمقابلات المعمقة التي تحمل الكثير من الهموم والكثير من الأمل..

جذبت روايته “مديح الكراهية” اهتماماً عالمياً وصنفت ضمن أهم 100 رواية عربية عبر التاريخ بحسب تصنيف Muse.

استغرق في كتابة هذه الرواية 13 عاماً متابعاً فيها قصة عائلة من حماة في الثمانينات وأثناء الصراع بين الإخوان المسلمين ونظام الحكم. نشر الكتاب في دمشق ثم حُظر وأعيد نشره في بيروت. كان دائماً يصرّح بأن عمله لا يناصر أي فكر سياسي وأنه يكتب فقط دفاعاً عن الشعب السوري.


لم يكن خالد خليفة روائياً فحسب، كان روائياً وشاعراً وتوجّه أخيراً إلى الرسم وأبدى شغفاً بهذا الفن.


روايته ” الموت عمل شاق” كانت الأكثر انتشاراً، إنها رواية المأساة السورية بكل المقاييس. هذا الكتاب يحكي عن رحلة جثة في ميكروباص أثناء الحرب، جثة أب أوصى أولاده بأن يدفن في مسقط رأسه في إحدى قرى الشمال الشرقي السوري الذي كان يسيطر عليه “داعش”. وكانت الحواجز الأمنية تنتشر على طول الأراضي السورية بألوانها المختلفة، وكان الميكروباص يحمل الجثة والأبناء، ويروي خلال رحلته قصة كل منهم بطريقة خالد خليفة المبهرة في ملحميتها.

صدر بعدها كتاب “لم يصلّ عليهم أحد” ليتوّج الكمال في رواياته ويكرّس الحب إلهاً يحكم تصرفات سكان حلب في القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين. تروي القصة حكاية طفل مسيحي ناج من الطوفان في ماردين، تربيه عائلة مسلمة من حلب. لكن خلفيات الرواية تجعل منها أسطورة تروي حكايات حب وحكايات موت، وتؤرخ لمدينة حلب بعين كاتب يمتلك تقنياته الخاصة.

كم تمنيت أن يكتب عن دمشق التي عاش فيها ردحاً من الزمن، لكنها لم تلهمه ربما. كم أتمنى لو أنه بقي معنا أكثر. ما زلت في صدمة وفاته أشتهي أن يكون الخبر إشاعة مغرضة.

آخر إصدارات خالد، كانت كتاب “نسر على الطاولة المجاورة”، وهو الدفتر الأول من دفاتر العزلة والكتابة، يتحدث فيه عن تجربته مع الكتابة، ومخاوفه ورؤيته لهذا العالم الواسع. ولأن خالد لا يحب إطلاق النصائح في ما يخص الكتابة، ففي هذا الكتاب الصغير يروي خالد تجربته الكتابية ويضع النصائح الصغيرة بين الجمل كأسرار يستطيع الكتّاب الشباب تتبعها، يقول عن الكتاب: “بالتأكيد، هي كتابة ضد النصائح، لكنها تشجع من يبحث عن النصيحة على اختراع حياته العاطفية مع الكتابة. إنه تسجيل لشهادتي حول الكتابة التي هي متحولة أيضاً”.

خالد خليفة ظاهرة محيّرة. اجتمعت على حبّه كل الأطياف والألوان السورية. واليوم وبنظرة واحدة إلى صفحات التواصل الاجتماعي، يتشارك كل محبّيه الشعور ذاته تجاهه، مكتشفين أن كل واحد منهم على علاقة خاصة به. هل كان نبيّاً حقّاً؟

“أنهض صباحاً قبل الفجر، يوقظني خرير دمي، أنتظر أن ينسحب اللون الأحمر، ليتحول إلى أصفر، يختلط مع الأزرق، تصعد الشمس في موعدها تماماً، غير مكترثة بالكائنات التي تقاتل على الجبهات من أجل امبراطور، أو لنصرة دين أو زعيم سياسي أو أفكار … “.

من رواية “لم يصل عليهم أحد”  

نشرت على درج هنا

المصدر
درج
زر الذهاب إلى الأعلى