“الطوفان” وحدَه الأجدر على غَسْل “الآثام”. هذان هُما عنوانا الفصل الأوّل والثاني من الرواية الأخيرة “لم يُصلِّ عليهم أحد” (2019)، للروائي السوري خالد خليفة الذي رحل عن عالمنا أوّل من أمس السبت، عن تسعة وخمسين عاماً. قبل أيّام من هذا التاريخ الأليم، الذي فُجِعنا فيه بكاتب ما زال في ذُروة عطائه الإبداعي ويُنتظَر منه المزيد، التأم أعضاءُ نادٍ صغير للكِتاب في بيروت، شبابٌ وشابّاتٌ مدفوعون بشغف كبير يتحدّثون ويفصّلون الحديث عن “حوش حنّا”، القرية التي ابتلعها الطوفان في الرواية، وعن صداقة زكريا البيازيدي وحنّا كريكورس. تساءلتُ: ما الذي يجعل من كتابة خليفة حيَّة بهذا القدر، حتى تنشغل بها شرائح مختلفة من عموم القرّاء العرب، إلى المُدقّقين والمختصّين في الرواية السورية؟
شخصيّاً، لم أتصوّر أنّي سأكتب عن الرواية، إلّا في مناسبة تُتيح لي أن أصل إلى صاحبها، أو “الخال” كما يُسمّيه السوريّون، لأقول له: “شكراً على هذا الجمال الذي يُشبهُك”. فخالد (باسمه الأوّل) ليس صعباً أن تتعرّف عليه أو تلقاه، وإن لم تفعل فهو سيدقّ بابك ويسعى إليك. وأن تقول عنه: “هو من عامّة الناس”، ليس في هذا التوصيف مبالغةٌ ولا ادّعاء تواضُع، ها هي صفحات الناس عامّة، على وسائل التواصل الاجتماعي، تكتب عنه وترثيه، ويضع الهُواة والمُجرّبون والقرّاء العاديّون صُورهم معه بكلّ عفوية، بالمقدار نفسه الذي يتحدّث عنه زملاؤه الروائيّون والنقّاد ومترجمو أعماله إلى اللغات الأُخرى. نعم، أشهُرٌ قليلة تفصلني عن محاولتي الكتابة عن الرواية، التي أرجأتُها ظنّاً منّي أنّي بعد وقتٍ سأصل إلى كتابة مُختمِرة مُلِمَّة بكلِّ تفصيلٍ من تفاصيل العمل. ها نحن الآن، جميعاً، نكتب ونصلّي مع أشباح البيازيدي وكريكورس على روح “الخال”، يا للأقدار!
لم يُخضع كتاباته لأهواء الأيديولوجيا أو يُنقّها حسب الشروط
كتب خليفة عن حلب، مدينته الأُولى، منذ البدايات التي عرفه بها الجمهور في “سيرة آل الجلالي” (2000)، العمل التلفزيوني الذي وقّعه بصرياً، ابن مدينته، المخرج هيثم حقّي. بعدها ظلّ الروائي يواصل سعيه في أعماله السردية قارئاً التاريخ السوري المعاصر وتحوّلاته الاجتماعية في ظلّ الهيمنة البعثية التي أفرزت ما أفرزت من عِلل وأمراض، لكنّه في “لم يُصلِّ عليهم أحد” لم يرجع إلى تلك المدينة على طريقة “الاحتفاء بالمحلّي”، حيث المكان يخنق صوت السارد وخيال القارئ معاً، على العكس تماماً، عاد إلى حلب ليروي جواراتها القريبة/ البعيدة، بدءاً من أريافها، مروراً بحمص وبيروت وطرابلس وحوران، وصولاً إلى إسطنبول، ومنها إلى جغرافيا أوسع.
خليفة، في عمله هذا، هو بنّاء يتقصّى لَبِنَاتِه من أبعد الأمكنة وأشدّها اختلافاً، لا يرضى لسرده أن يكتفي بالصوت المألوف، ولا الحنين المَرَضي. حلب التي كتبها جميلة نعم، ولكنها ليست مُستدعاة من “زمن جميل”، وجمالُها مُتأتٍّ من القدرة على تصوير البؤس والجوع والطواعين المتفشّية، وتمزُّقات السياسة قبل مئة عام، التي انعكست في أجساد أبناء المنطقة، من الأعيان إلى برجوازيّي المُدن ومتعلّميها، إن جاز التعبير، وليس انتهاءً بالفلاحين والمُشرّدين وبائعات الهوى.
في لقاء سابق أجرته “العربي الجديد” عام 2014 مع الروائي السوري، نراه يستعيد حلب المُهمّشة، وكيف انكفأت المدينة على ذاتها في ظلّ الحكم البعثي، يقول: “المدينة جارحة، الذكريات جارحة، الصور جارحة، إلى درجة أنّني أتساءل مع أبطالي: كيف استطعنا العيش في ظلّ هذا العار؟”.
كتب خليفة عن الحبّ، أو “الحبّ المستحيل”، عنوان الفصل الرابع من العمل، لم يكن رومانسياً قطُّ، مُعجمُه واقعيٌّ قاسٍ، بلا ثقل دم ولا تطفُّل أو استسهال. ومسرحُ هذا الحبّ عنده هو الجسد وحده، الحاضر في روايته ليحكي عن الجوع بمعانيه كلّها دفعةً واحدة، جسدٌ مكتوبٌ بلغة الفترة التي عاش فيها أصحابُها قبل مئة عام، من غير تفريط بالمبادئ الحقوقية العامّة والبدهية لعصرنا، ولا خضوع لخطاب أيديولوجي يعمل على “تنقية” الأدب بما يتوافق مع سياسات الهوية الرائجة اليوم.
عاد إلى التاريخ بوصفه تمثيلاً أعلى لا ترفُّعاً عن الواقع
خليفة الذي اشتبك منذ “دفاتر القرباط” (2000) بـ”حرّاس الفضيلة” (الخديعة) بطبعتهم البعثية، ما كان ليكتب وفق ما يقترحه الحُرّاس الجُدد. “استيقظَت شمسُ الصباح بعد أقلّ من ساعة، نهضت من فراشه، اغتسلت، ثم غيّرت الشرشف، واضطجعت قُربه. كان الفجرُ يتسلّل من النافذة، وَلَجَها مرّة أُخرى، وكانت تهذي باسمه، تتأوّه، تتلوّى تحته، تركته يقودُها إلى حيث يُريد، ويفعل بجسدها ما يشاء”.
كتب خليفة عن الصداقة، بما هي أوّلاً “الطريق الشاقّ”، عنوان الفصل السادس، وطّأ من خلالها إلى عالم آخر، يختلف عن الوطنيات المُبتذلة حول التعايُش والتآخي بين المكوّنات، والتي تُصادفنا عادةً. لكن السؤال الذي يطرح نفسه: ألم يُعِد في ذلك سيرة “التسامح”؟ اللفظة الأخيرة تُحاصرنا هذه الأيام بـ”خيريّتها” التي تُطلّ علينا من أبواب سياسية وإعلامية عديدة. يُمكننا القول إنّ خليفة قد تجاوز هذه الأُطر، لم يكن عنده الكثير من الوقت لينشغل بالنقد ونقد النقد، هذه مهمّة أُخرى اختلقها بعض النقّاد المدرسيّين والمثاليّين، فاجتهاداتُه السردية كانت تضعه مباشرة في صلب عملية الكتابة، وتُوصله (ومَن قال إنّ الطريق، هنا، ليست شاقّة؟) إلى أبعد حدٍّ مُمكن، حتى لا تأتي معالجته لهذه القضية نمطيةً. وإنْ كان مِن قول نقدي يُضاف على هذا التفصيل فليُكتب، فالرواية صدرت منذ أربع سنوات، وإلى الآن لم تُطالعنا المواقع الأدبية بأيّ مراجعة شاملة عنها!
أسئلةٌ أُخرى يطرحُها العمل: أبرزها ثيمة التاريخ والعَودات المُتكرّرة إليه وما فيها من إشكاليات، أقلّها على مستوى الخطاب والسرديّة التي تحمل الرواية وتُحرِّك شخصيّاتها. فالزمن الذي اشتغل عليه خالد خليفة في “لم يُصلِّ عليهم أحد” أخذت فيه المنطقة ترتسم وفقاً لخريطة سياسية جديدة، في ظلّ “عالمٍ يتداعى”، كما عنون الفصل الثامن. تلك هي التشظّيات الحقيقية التي حفرت مساراتٍ من لحمٍ ودم لحلب وللحُبّ وللصداقة، بل حفرت أيضاً مسارات الخيول التي استحضرها بكامل دهشتها في عمله هذا منذ الصفحة الأولى.
طبعاً لا تُمكن قراءة العودة إلى التاريخ في هذه الرواية (هو تاريخ قريب، ونحن، اليوم، امتدادٌ عنه على أية حال، ولا يأخذ أيّ معنىً فلكلوري)، بمعزلٍ عن عالَم خليفة الروائي. وهنا يُمكن أن نُقارب بعض إنتاجاته من باب التصنيف، فنتحدّث عن مجموعة أُولى (مجازاً وليس بالمعنى الحرفي) فيها: “مديح الكراهية” (2006) و”لا سكاكين في مطابخ هذه المدينة” (2013)، مقابل أُخرى تتضمّن “الموت عملٌ شاق” (2016)، و”لم يصلِّ عليهم أحد” (2019). الأولى تبحث في التحوّلات الاجتماعية داخل سورية، وهي مثال للرواية المهمومة بالسياسة، ولكنّها ليست سياسية. أمّا المجموعة الثانية فتخرجُ من الحرب في سورية كواقع يومي مُعاش بعد أن مثّلته، ثم تتّجه إلى التاريخ بوصفه رمزاً أعلى وأبعد للمحنة، هناك تأخذ التجربة مداها. ومن بين تلك العناوين والتواريخ، يظهر حدثٌ هو العنوان والمستقَرّ، إنه تاريخٌ قلَبَ وزعزع التواريخ الراكدة من قبله في عام 2011، حيث لم يكن “الخال” خالد خليفة بعيداً ولا متأخّراً عنه أبداً.
أخيراً، الرواية التي بدأت بـ”الطوفان” وباستعارة ثنائية الماء والآثام، بما فيها من إيحاء ميثولوجي، خُتمت بـ”سرير القدّيس الليّن”، وبعودة مجازية إلى الماء أيضاً، بقدرته السحرية على الإرواء والإحياء أو حتى خطف الأنفاس “غاص في أعماق النهر، هناك كان ابنُه كابرييل وجوزفين وابنُ زكريا والخوري وخطيب إيفون وأبوه صاحب المطحنة، وباقي الغرقى ينهضون من موتهم مرحين، اصطحبوه من يده إلى ملكوتهم حيث الحياة هناك طَريّة والأسماك لا تموت”.