خالد خليفة يكتب تمثيلات روائية لفسيفساء التاريخ السوري 

خالد خليفة وغلاف الطبعة العربية من لم يصل عليهم أحد

يفتتح خالد خليفة روايته “لم يُصلّ عليهم أحد” بطوفان النهر الذي أودى عام 1907 بمن في حوش حنا، فامتلأت مقبرة القرية بصف من القبور للمسلمين، وثانٍ للمسيحيين، وثالث للمجهولين والغرباء، ورابع فاغر بانتظار الجثث.

من هذه القبور تطلع الفسيفساء السورية منذ مطلع القرن العشرين إلى منتصفه، وهي الفترة التي أغوت الرواية في سوريا في سبعينيات – وثمانينيات – القرن الماضي كما في ثنائية نهاد سيريس (رياح الشمال) وثلاثية خيري الذهبي (التحولات) ورباعية كاتب هذه السطور (مدارات الشرق) وسواها مما كانت الريادة لها في رواية صدقي إسماعيل (العصاة). على الجثث المجهولة، رفض الكاهن والشيخ الصلاة، فهل تومئ رواية خالد خليفة إلى الفسيفساء السورية التي لم يُصلِّ عليها أحد، ليس فقط منذ قرن مضى ونيف، بل في زمن كتابة أوقراءة هذه الرواية؟

في الشطر الديني من الفسيفساء يكون للمسيحية ولليهودية الحضور المنافس للحضور الإسلامي. وتحتشد في الرواية علامات التفاعل بين هذه المكونات الدينية للفسيفساء إيجابياً في الغالب، وصراعياً أحياناً. ومن ذلك ما كان في ماردين من المجزرة التي ارتكبها ثلاثة من الضباط العثمانيين. وقد نجا حنا الطفل من المجزرة، ومضت به الخادمة مارغو إلى صديق والده في حلب، أحمد البيازيدي. ومع زكريا ابن أحمد نشأ حنا صديقين لم يفرقهما إلا الموت. وكانت سعاد شقيقة زكريا العشقَ الأبدي الكاوي لحنا، كما كان لها، لكنهما لم يتزوجا. ويتثنى هذا العشق بين مسيحي هو الفنان التشكيلي وليم ميشيل عيسى وعائشة بنت بشير المفتي. لكن الزواج سيتوج هذا العشق الذي تتصدى له حلب، فتصم عائشة بالفلتان، وتشهّر بعلاقة أبيها بجماعة عبد الرحمن الكواكبي ومن ترميهم بالإلحاد. وإذا كان الضابط العثماني الذي افتتن بعائشة قد قتلها مع وليم، فقد غدت عائشة رمزاً للتحرر لدى فريق متحرر، كما غدت رمزاً للانحلال لدى أنصار العثمانية.

الطريق الشاق

لم يغرق الطوفان زوجة حنا وابنه فقط، بل أغرق ماضيه الصاخب المتهتك، وتبددت شهواته، وانصرف إلى كتابة مشاهداته اليومية، ومضى في “الطريق الشاق” الذي يُعنْون الفصل السادس من الرواية، ويتأرخ بعام 1908، مع ماريانا التي نجت من الطوفان، في رحلة الحج أو سياحة المتصوف. وفي حوران من محطات الرحلة التقى حنا في الدير بالأب إبراهيم. وكانت ماريانا تروي في طريق الرحلة ما تروي عن معجزات حنا. وفي العودة، كانت جموع المشلولين والعميان والبرص والمرضى تنتظر بركات القديس عند كنيسة زهر الرمان، بينما قال حنا لماريانا إنه لا يريد أن يصبح قديساً، ولا ينشد إلا العزلة. لكن ماريانا تصنع منه الراهب القديس.

في سنة 1909 قام دير زهر الرمان، وفي سنة 1951 يصير خرابة، وتقف ماريانا التي ساست الدير على حافة العمى، منتظرةً موت الحبيب الأزلي حنا لتسعى لدى البابا كي يطوبه قديساً. وسوف يختم حنا الرواية بعدما تبادل مع سعاد إعلان الوجد المقيم، فيغوص في النهر، بينما الآلاف يتجهون إلى الضفة، كأن مدينةً انبثقت من جديد. وإذ يغوص شبان في النهر بحثاً عن حنا الذي اختفى في الأعماق، ينهض غرقى الطوفان مرحين، ويصطحبون حنا إلى ملكوتهم.

في المكون اليهودي للفسيفساء، تبرق صداقة حنا مع مهندس العمارة عازار، ابن حاييم إستنبولي الموظف في الميتم اليهودي. وعازار هو من صمم لحنا القلعة التي أرادها مملكة للذة ومتاهة. وقد شيدت القلعة على تلة مشرفة على خرائب قرية براد، وسماها حنا باسم محبوبته شمس الصباح التي جاء بها من بيت أم وحيد للدعارة. وكانت أشهر عاهرات حلب: نهوند اليهودية المغربية هي من دبّر لحنا قتل ضابطين من مرتكبي مجزرة ماردين، فأحرق الجنود منزلها. وبحسب الرواية، لدى يهود حلب أفضل الخمور. وهذا تاجر أقطان يهودي يستورد من لندن طاولة للقمار، فيتصدى له الشيوخ في خطبة الجمعة، فيبيع الطاولة إلى حنا. ومن يهود حلب في الرواية بائع الذهب أبو راؤول، وبالطبع لهم الكنيس. لكن قيام إسرائيل سيقوض المكون اليهودي. فعازار حين رأى قبيل موته صورة ابنه وابنته في جريدة إسرائيلية، يوم إعلان قيام إسرائيل، تمنّى الموت، وقال لسعاد إن اليهود سيعيشون تيهاً آخر، وأبدياً.

ربما بلغت التمثيلات الروائية للمكون الديني غايتها فيما آلت إليه القلعة بعدما هجرها حنا. فقد دعت شمس الصباح أم وحيد مع (بناتها)، أي العاهرات، ثم فكرت في تحويل القلعة إلى مأوى للعاهرات العجائز اللواتي بلا معيل، ولا يقبل أحد توبتهن، من يهوديات ومسلمات ومسيحيات.

البعد الإثني

وتتركز في المكون الكردي، ومن تمثيلاته شيخ موسى آغا الذي زوّج ابنته شاها إلى زكريا البيازيدي. وعارف شيخ موسى صديق زكريا يوقعه طموحه بامتلاك القطارات، في خديعة شركة لجمع الأموال منه ومن أمثاله. وفيما هو أقرب إلى الملخص السردي، يظهر التمرد ضد الاستعمار الفرنسي في خرائب المدن البائدة، ويظهر شيركو الذي يتحول من قاطع طريق إلى بطل أسطوري يلقى مصرعه عام 1922. وفي ذلك الزمن الذي قاد فيه شيركو عصابة “الفرارية”، يحدثه يوسف عن حق الأكراد في دولة كردية. ويحضر في الرواية أيضاً المكون الأرمني الذي كانت المذابح التركية قد دفعت به إلى شرق سورية إلى حلب، حيث تتزوج مريم الأرمنية من أورهان التركي، مما يجر عليها نكران رهطها الأرمني.

يجسد الفضاء الروائي الفسيفساء السورية، وبخاصة الإثنية، من شرق البلاد إلى شمالها إلى حلب. ومن ذلك قرية براد الكردية التي سُجلت على مواقع التراث العالمي عام 2011، ودمرت تركيا فيها ضريح مار مارون في مارس (آذار) 2018، ثم احتلها الجيش التركي ودمر كنيسة جوليانوس التي تضم ضريح مار مارون. وثمة أيضاً من فضاء الرواية قرية شران والمركز: عفرين، الكرديين. وفي المدن المنسية في ريف إدلب بخاصة، يأتي النسيج الاجتماعي البديع، كما في حلب نفسها، حيث الأحياء المسيحية والإسلامية، وفيهما اليهود. ومن تلك الأحياء الداخلية كان تطور المدينة إلى حي العزيزية الذي انتقل إليه مسيحيون، وحي الجميلية الذي انتقل إليه يهود. أما قرية العنابية، فقد سبق لها أن حضرت في روايات خالد خليفة، فكانت مسقط رأس الأب الذي تعاد إليها جثته ليدفن فيها، في رواية “الموت عمل شاق”. وحضرت العنابية في روايتي “لا سكاكين في مطابخ هذه المدينة” و”دفاتر القرباط”. ولئن كانت الفسيفساء السورية تتألق، في ذلك الزمن الخارج من الاستعمار العثماني/ التركي/ والداخل في الاستعمار الفرنسي، فها هي تتدمر في زمن الزلزال المتفجر منذ عام 2011، ومن ذلك عودة الاحتلال التركي إلى عفرين وبراد وشران وسواها من فضاء رواية “لم يُصلّ عليهم أحد”، وقيام هذا الاحتلال بتتريك هذا الفضاء شمال حلب. ولا ننس أن الأسماء الكردية في الشمال والشرق كان قد سبقت دولة “البعث” إلى تعريبها، فماذا بعد؟

وطن للطيور… و للبشر

كان حنا المغرم بالعيش في زمانين ومكانين، يفكر أن للطيور وطناً مثل البشر، تحزن عندما تغادره. فلو تحول البشر إلى طيور، لكانوا أقل وحشية وأنانية. ولئن كان حنا يعبر هنا عن صبوة كبرى للرواية، فللرواية صبوات كبرى سواها، عبرت عنها بامتياز شخصيات عديدة، في مقدمها سعاد ذات الخيال المفرط، والتي تحب وتكره بتطرف، وتحولت بعد الزواج إلى حلزون يقتات ذاته. كذلك هو صالح العزيزي، خادم حنا الذي عشق عائشة، وصار مريداً للمعلم جنيد خليفة، ثم وشى بعائشة ووليم عندما هربا، فأصابه الجنون، وأخذ يردد من المئذنة مقاطع من رسائل عائشة، ويهتف “أنا إمام العاشقين” ثم شنق نفسه. ولكن أنّى له أن يحفظ تلك المقاطع، وهو بالكاد تعلم فكّ الحرف على يد جنيد؟

يقترن حضور حنا في الرواية بحضور زكريا البيازيدي عاشق الخيل، منذ الطفولة حتى الموت، في أمثولة ثرية بقدر ما هي نادرة للصداقة. ومثلهما تتألق الشخصيات، الثانوي منها كالمحوري، من العاهرات إلى العرافة أو المؤرخ الشفوي أو الفنان أو رجل الدين. وعبر حيوات الشخصيات تتناسل وتشتبك الحكايات، ويحدث أن تنتأ التأرخة- ما يتعلق بأبو الهدى الصيادي مثلاً. لكن الأهم هو ما رسمت الرواية من المشهديات، كما في زلزال حلب عام 1822 الذي دمر المدينة وابتلاها بالطاعون. وقد نهضت حلب إلى بلوى مماثلة في ما عرف بالسفربرلك زمن الحرب العالمية الأولى، وهو ما تألق بقوة في ما ذكرت من روايات نهاد سيريس وخيري الذهبي وكاتب هذه السطور، وفي رواية ممدوح عدوان (أعدائي) ورواية توفيق يوسف عواد (الرغيف).

لم يوفّر خالد خليفة حيلة في سرد كل ذلك، كأن يقدم الشخصية في مفاصل حادة من حياتها، ثم منها يمضي السرد، بلا فواصل، إلى شخصية قد تكون صديقاً أو عدواً أو عشقاً لمن سبق. أما جماع ذلك فقد انتظم في فصول للسارد، وفي (لعبة)، مؤداها أن خالد خليفة عثر على المصنفات التي كتبها حنا بين 1918-1951، في منزل عائلته في قرية (العنابية) فأعاد كتابة بعضها بأسلوبه، كما فعل في فصل رواية (الحب المستحيل)، عن مخطوط لجنيد خليفة، أحد أخوال الكاتب. إن جمالية اللعبة تبدد السؤال عما قد يكون فيها من سيرية وواقعية.  

نشرت على اندبندنت عربية هنا

زر الذهاب إلى الأعلى