“دفاتر العزلة والكتابة”: الكتابة قول الأشياء بشكل مختلف وجذّاب

“الكُتّاب يحاولون شرح خصائص مهنتهم ومصاعبها وصفاتها كي يثيروا التعاطف معهم، لكن من دون جدوى. إذ غالبًا ما يبدو هذا الشرح سيئًا، لا قيمة له إنْ لم يشوه عظمة هذه المهنة، ويعترف للآخرين بحق التدخل وإبداء الآراء بطريقة صنع النص”. هذا ما كتبه الروائي السوري خالد خليفة في بداية كتابه الجديد الذي صدر في نوفمبر/ تشرين الثاني 2022 عن دار نوفل (هاشيت أنطوان)، بعنوان “نسرٌ على الطاولة المجاورة: دفاتر العزلة والكتابة ـ الدفتر الأول”، والذي يتناول بعض وجهات نظره وآرائه حول الكتابة.

خالد خليفة – وغلاف نسر على الطاولة المجاورة

يتألف الكتاب من 132 صفحة، تضم مقاطع مستقلة كل مقطع أو اثنين منها يتناول فكرة ما. ويُجيب الكتاب على تساؤلات عديدة متعلقة بالكتابة كمهنة احترافية وكحالة إبداعية، ويقدم عددًا من النصائح للكتّاب بطريقة أدبية سلِسلة وممتعة بعيدًا عن الوعظ والتلقين.

“ما نكتبه هو جزء من سيرتنا الذاتية التي نسردها بفن ومهارة بحيث يبدو هذا السرد يخص شخصًا آخر”

خالد

المقاطع الأولى من الكِتاب تتحدث عن نظرة الآخرين الفضولية للكتّاب ومهنة الكتابة، وكيف يجب على الكاتب أنْ يحتفظ بأسراره ولا يشرح خصائص مهنته ومصاعبها.

“على الكتّاب ألا يُسلموا أسرارهم، ليكتشف الآخرون ما يُثير فضولهم بنفوسهم بعيدًا عن الشروحات البائسة. على الكُتّاب أن يزيدوا من غموض ألمهم، ويعترفوا بعجزهم عن إعادة توصيف ذلك الألم البهيج”. وفي مقطع آخر يقول: حين يشرح الكُتّاب مهنتهم يبدون كلاعبي أكروبات في السيرك، يستجدون تعاطفًا من جمهور لا يفقه شيئًا في السيرك وقوانين التوازن، كما لا يفهم روعة القفز والسير على الحبال.

هل يوجد كاتب حر بشكل كامل في ما يكتب؟ ومن ينجح بأن يكون حرًا ويتجاوز كل القيود ويكسر التابوهات كلها؟ هل يستطيع أن يتحرر أثناء كتابته من تخيل وجود قارئ ما أو قلة من القُرّاء يريد إدهاشهم وإمتاعهم؟ هل يتحرر من التفكير بالمجد والشهرة والجوائز؟

ضمن هذا السياق يكتب خالد خليفة: ماذا يعني رواية جديدة؟ لحظات قليلة من الفراغ، ثم لا شيء… ستنضم إلى ما قبلها، لم يعد يعنيني إنْ نجحتُ أم فشلت، حتى إنني لا أعرف معايير النجاح، كما لم يعد يعني لي أي شيء إنْ ربحت جوائز أم خسرت، لم يعد يعنيني إنْ أحبها الناس أم كرهوها، كل الصفات الجديدة لم تعد تعنيني. جربت كل شيء حتى الثمالة.

“المقاطع الأولى من الكِتاب تتحدث عن نظرة الآخرين الفضولية للكتّاب ومهنة الكتابة، وكيف يجب على الكاتب أنْ يحتفظ بأسراره ولا يشرح خصائص مهنته ومصاعبها”

خالد

الكلام أحد أهم الأشكال التي نعبر فيها نحن البشر عن أنفسنا، وهناك كثير من الأشخاص يشعرون بأنّ حياتهم وأفكارهم ومعاناتهم ونجاحاتهم جديرة بأنْ يكتبوا عنها وينشروا ما يكتبونه، وبالطبع هذا حقهم. قد يكون بالفعل لدى هؤلاء قصة وحكاية هامة، ولكن هذا لا يكفي لتصبح عملًا أدبيًا جيدًا، فالكتابة هي فن قول الأشياء بشكل مختلف وممتع وجذّاب، وهذا أحد أهم الفروقات بين الكاتب العادي والكاتب المتألق. يرى خالد خليفة أنّ: الكتابة السيئة تجعل حياة كاتبها أفضل. والكتابة الجيدة تجعل حياة كاتبها وحياة الناس أفضل. ويؤكد تعاطفه مع الكتّاب غير الموهوبين لدرجة أنه لم يقل في حياته لأي كاتب بأنّ عليه التوقف عن الكتابة لأنّ ما يكتبه سيئ! لأن فعل الكتابة، وبحسب رأيه، يجعل من يقوم به سعيدًا.

أظن أنه من الصعب الكتابة بعيدًا عن تجاربنا وحياتنا التي عشناها، وما نكتبه هو جزء من سيرتنا الذاتية التي نسردها بفن ومهارة بحيث يبدو هذا السرد يخص شخصًا آخر. ضمن هذا السياق يدعو خليفة من يبحث عن فكرة للكتابة ألا يذهب بعيدًا عن حياته التي عاشها: “إذا كنت تبحث عن فكرة لرواية، أعد ذاكرة طفولتك إلى الشوارع، أفرد أسرارها المخجلة ولا تتشبث بالأخلاق”.

العائلة وأسرارها والعلاقات المزيفة والحقيقية في ما بينها تُعد مادة غنية يمكن أنْ يُكتب عنها الكثير، لكن الأمر يحتاج إلى الجرأة وإلى مراعاة كثير من التفاصيل المتعلقة بالأخلاق ومشاعر من سنكتب عنهم. لا يجرؤ خليفة حتى الآن على دخول هذا الحقل الممتلئ بالألغام والأفخاخ رغم رغبته وإحساسه بأنه حقل خصب ودسم للكتابة.

“العائلة تقدم لك كل ما تحتاجه لتغادر منصة الكتابة، تبقى الكتابة هي التهديد لأسرارها. لا أزال جبانًا لا أجرؤ على تفتيش عار العائلة، لكنني في أعماقي أعرف أنني أحتفظ بتلك الحكايات إلى وقت يجف فيه الخيال، وحين أصبح تقريبًا جثة عفنة لا بد سأفتح تلك الدفاتر وأعيد كتابتها”.

يبدو أنّ الكتابة عن العائلة يصبح مع الوقت صعبًا، وخاصة بعد غياب الأشخاص الذين سنكتب عنهم؛ فموت والدة خالد بالنسبة إليه جعلها أيقونة لا يمكن المساس بها، كذلك والده، وبالرغم من أنه لم يكن على علاقة طيبة معه، إلا أن موته جعله شخصًا مسكينًا وضعيفًا ويستحق الشفقة رغم قوته. وضمن هذا السياق، يقول: فقدت الرغبة في الكتابة، أصبحت أكثر جبنًا في الحديث عما يجب أن أكتبه بكل حرية ودون أي إحساس بالندم. ثم يعود ليقول: أنا نادم لأنني لم أكتب سيرة عائلتي التي فيها الكثير لأرويه بجماله وقبحه.

“نسرٌ على الطاولة المجاورة” كتاب يحوي العديد من المواضيع والأفكار الهامة والمفيدة والممتعة للقراء والكتّاب بشكل خاص، وقد يكون المقطع الآتي من أجمل ما ورد فيه عن كتابة الرواية: “كتابة رواية بطريقة واحدة نعرفها، كتابة رواية بلغة اختبرناها، تشبه تمامًا رؤية مدينة طوال يوم كامل من خلف زجاج مقهى، والاعتقاد أن هذه التفاصيل ستكرر نفسها في اليوم التالي. الزاوية نفسها، المقهى نفسه، الموظفون، الموظفات، المارة، الأرصفة، الأشجار نفسها. الكتابة بهذه الطريقة تنتج نصًا لا يستطيع الركض أكثر من خطوات قليلة، ثم لا بد من سقوطه ميتًا. احتمالات الدهشة حتى لو كانت نسبتها واحدًا بالمليون جديرة بالمغامرة. سأفترض الآن، من موقعي في مقهى السويس باللاذقية، والساعة الآن تشير إلى التاسعة صباحًا، مع فنجان قهوتي الثاني، يتكرر مشهد مرور الأشخاص والسيارات وباعة اليانصيب تمامًا كما في اليوم السابق، إلا أنني أنتظر أنْ يحطّ نسرٌ على الطاولة المجاورة ويطلب قهوته، يجلس على كرسيه ويتأمل المارة. رغم استحالة هذا إلا أنني أنتظره، أو أنتظر فعلًا يشبهه، كحقيقة غير قابلة للجدل”.

خالد خليفة: روائي سوري، من مواليد مدينة حلب 1964، كتب عددًا من الأعمال التلفزيونية، مثل “سيرة آل الجلالي”، “هدوء نسبي”، وغيرهما… إضافة إلى الأفلام الوثائقية والقصيرة، والأفلام الروائية القصيرة والطويلة. له ست روايات: “حارس الخديعة”؛ “دفاتر القرباط”؛ “مديح الكراهية” التي رُشحت لنيل جائزة البوكر العربية؛ “لا سكاكين في مطابخ هذه المدينة” الفائزة بجائزة نجيب محفوظ للأدب؛ “الموت عمل شاق” التي وصلت إلى القائمة القصيرة لجائزة الكتاب الوطني الأميركي، وأيضًا إلى القائمة القصيرة لجائزة أحسن كتاب مترجم إلى اللغة الإيطالية، ورواية “لم يُصلِّ عليهم أحد”. ترجمت بعض رواياته إلى لغات أجنبية.

نشرت على موقع ضفة ثالثة هنا

المصدر
ضفة ثالثة
زر الذهاب إلى الأعلى