من غرائب المواطن خالد تاجا، الذي كان يعتقد بأنه سيعيش ألف عام، أن يرحل في وقت توغل آلة القتل في دماء السوريين منذ أكثر من عام وسط صمت عجيب، يبدو فعل موته عبثاً لا يستطيع أحد احتماله، كأنه فعل لهو لطالما أحبه وأخلص له، أو فعل احتجاج صامت على ما يحدث في طول البلاد وعرضها، ومن غرائب الممثل خالد تاجا أنه لم يكن يوماً يخطط لشيء، يبحث عن الأدوار في كل مكان، حين تصل إليه يمسك بها كالمتشبث بقدره، يقوم بإعادة الخيال إليها ويعيد إنتاجها كما يليق بممثل عظيم، لا كممثل يبحث عن الشهرة والمجد والعلاقات العامة، فعل ما لم يفعله الآخرون، ذهب إلى التمثيل بكل ما لديه من طاقة، لم يفكر يوماً بما يشغل أقرانه من الممثلين، عناوينه واضحة لا لبس فيها ولا غموض، يعبر عن حلمه بتجسيد “الملك لير” على خشبة المسرح من دون أن يتشكى ومن دون أن يتنطع ويلعب دور العراب ومن دون ان يتواطأ، يبحث وسط الركام عن بهجته، يحولها بعد تفكيكها وإعادة بنائها إلى سحر خاص، كثيراً ما سألت نفسي كم شخصية يختزن في داخله برغم أنه لم يعش سوى بشخصية واحدة واضحة العناوين.
من السينما في منتصف الستينيات بكل أنواعها الجادة والتجارية إلى التلفزيون وأدواره التي يصعب حصرها “من هجرة القلوب إلى القلوب” مع المبدع هيثم حقي والكاتب المبدع عبد النبي حجازي إلى دوره في “التغريبة الفلسطينية” مع المبدعين المخرج حاتم علي والكاتب وليد سيف الذي سيبقى علامة كبيرة في فن التمثيل، إضافة إلى شخصياته الأخرى التي تتحول أحياناً إلى مادة أولية لتجريب أدوات سيقوم باعتمادها في أدوار أخرى، غارقاً بين البروفات والنسخة النهائية التي سرعان ما يتخلى عنها إلى أفق التجريب وخيال الممثل الأكثر رحابة.
مع بداية نهضة الدراما السورية بداية التسعينيات من القرن الماضي، ببساطة استعاد خالد تاجا موقعه كممثل فريد بين أقرانه، بعد انقطاع طويل عن التمثيل عاد ليجلس مكانه من دون أن يزاحم أحداً على مكانه، الممثل شبه الوحيد الذي لم يعدد صفاته، لم يقل إنه سيجرب الكتابة لأن الكتاب أقل من عبقريته، لم يقل إنه سيتحول إلى الإخراج أو الإنتاج أو العلاقات العامة التي أصبحت من مستلزمات الممثلين النجوم الفخورين بسياراتهم وفيلاتهم وعلاقاتهم مع رجال السلطة الأقوياء بعد سنة 2000 وبعد تحول الدراما التلفزيونية من مشروع بحث جماعي بين كل أطراف العملية الإبداعية إلى مشروع بزنس وإذعان، تقوم فيه مجموعة من الممثلين بممارسة سطوتهم واستعارة أسوأ ما في الدراما المصرية التي تعتبر النجم مركز الكون والدراما، وسط كل هذا بقي خالد تاجا يشكل إحراجاً لزملائه المتعددي الصفات، بقي ممسكاً صولجان الممثل فقط، يدافع عن فن عظيم في أرض عارية مع مجموعة ممثلين قلائل لم تستطع موضة العلاقات العامة إفساده.
في نهضة الدراما التلفزيونية الثانية في نهاية التسعينيات وبداية القرن الجديد، لم يكتف خالد تاجا بالعمل على مشروعه كممثل بل أضاف إليه العمل على شخصيته التي تشكل جزءاً أساسياً من مشروعه المبدع، كلما تقدم به العمر ازداد تسامحاً وتوضحت صورة الطفل الذي لم يمت في قلبه، بل ازداد براءة وهشاشة، وكيف يذهب ممثل إلى عمله إن لم يكن لديه كل هشاشة الإنسان، وأكاد أجزم بأنه مع أشخاص قلائل أنقذوا سمعة فن التمثيل السوري بإخلاصهم لصفتهم الوحيدة، كما أنقذوا الكثير من الأعمال الدرامية التي كان من الممكن أن يكون نجاحها أقل لولا وجودهم فيها.
لست الكاتب الوحيد الذي يفكر دوماً بكتابة مسلسل أو فيلم يقوم خالد تاجا بلعب دوره الرئيسي، لكنني لست الكاتب الوحيد أيضاً الذي لم يجد الوقت في ظل انشغال الأدوار في ملاحقته، إلى درجة أنه كان يعتقد بأنه لن يموت كما كنا نعتقد بأنه لدينا وقت طويل وحياة كاملة سنجد فيها ذات يوم وقتاً للمرح والكتابة والعمل.
كيف يموت طفل لاهٍ، ينثر البهجة أينما حلّ في الحياة أو على الشاشة الصغيرة والكبيرة، انتظارنا له قد مات الآن لكن ذلك الرجل السبعيني البريء، براءة التمثيل والفن النقي الذي أمتع الملايين لن يموت وإن كان يعنيه أنه قد ذهب إلى الموت بصفة وحيدة تاركاً باقي الصفات للحالمين بسلطة الممثل وليس بالتمثيل واللعب والبهجة والبراءة.
نشرت على ايام الثقافة هنا