رواية جديدة لغابرييل غارسيا ماركيز.
في تفاصيل هذا الخبر المثير، أنه في ربيع العام المقبل 2024 ستصدر رواية غابرييل غارسيا ماركيز “نلتقي في أغسطس”، بعد عشر سنوات من وفاته في 17 أبريل/ نيسان عام 2014. حسب إعلان دار النشر العريقة “راندوم هاوس”.
كواليس
أما في كواليس الخبر وتسريباته، فتبدأ التناقضات تتكشف لعشاق الكاتب العظيم، وتعيد طرح مشكلة سيبقى نقاشها عابرا للثقافات واللغات: متى يتوقف دور الورثة عن التخريب بحجة ملكيتهم القانونية لحقوق الكاتب أو الفنان المتوفي؟
ونتبعه بسؤال هل نتاج كاتب عالمي مثل ماركيز إرث وطني وإنساني أم شخصي يخص عائلة الكاتب وورثته من بعده؟ ولا يمكن القول بالاثنين معا.
كي لا نذهب بعيدا، نتساءل ماذا لو كانت رواية ماركيز الجديدة سيئة، ولا تليق باسمه وتراِثه الإنساني العظيم؟ ماذا ستكون ردة فعل ورثته الذين حتى الآن يمكن وصف سلوكهم مع إرثه بالسيء والجشع جدا، فهم يبيعون كل شيء، دون تمحيص، مستغلين حقهم القانوني بشكل متعسف إلى أبعد الحدود.
قضى ماركيز حياته متنقلا بين المكسيك مكان إقامته الأساسية، إذ كانت المكسيك وطنه الثاني، وبلده كولومبيا، وكوبا التي ربطته علاقات كبيرة مع شعبها وزعيمها فيديل كاسترو، رغم ذلك اعتبر الورثة أن أوراق وأشياء ومسودات الرجل التي تُشكل مادة أساسية لإعادة كتابة سيرته، وبالتالي تمتلك رمزية عاطفية كبيرة، يمكن بيعها لمركز “هاري رانسون” التابع لجامعة تكساس الأميركية. بينما كان من باب أولى لهذه البلدان الثلاثة التي ذكرناها أحقية الاحتفاظ بهذا الإرث الإنساني الذي يحمل رمزية كبيرة للثقافة الوطنية اللاتينية والإنسانية.
رواية ماركيز ستصدر وسيحصد الورثة ملايين إضافية من الدولارات، ولن يعنيهم إن كانت الرواية مهمة أم أنها مجرد مسودة لم ينته العمل عليها، ونشرها يسيء لإبداع الكاتب المكتفي بمجده ومـؤلفاته
الرواية ستصدر، وسيحصد الورثة ملايين إضافية من الدولارات، ولن يعنيهم إن كانت الرواية مهمة أم أنها مجرد مسودة لم ينته العمل عليها، ونشرها يسيء لإبداع الكاتب المكتفي بمجده ومـؤلفاته. إضافة أي كتاب غير مؤكدة أهميته ولم يأذن هو بشكل شخصي حين كان يمتلك قراره، تعتبر تعديا على كيان الشخص المادي والمعنوي، لأنها ببساطة تضعف أسطورة الرجل وتقلل من أهميتها.
جشع
لورثة ماركيز سوابق في التعامل مع إرثه بطريقة جشعة، فشعارهم نحن نبيع لمن يدفع، ومن هذا القبيل أن ماركيز لطالما صرّح بعدم رغبته في رؤية رائعته “مائة عام من العزلة ” تتحول إلى فيلم سينمائي أو مسلسل تلفزيوني، رغم تحول أكثر من رواية وقصة وسيناريو إلى أفلام. لكن الأخبار الواردة أيضاً تقول إن الورثة باعوا حقوق إنتاج هذه الرواية بعد خمسين سنة من نشرها للمرة الأولى عام 1967 إلى “نتفليكس” التي أكدت الخبر عام 2019، والعمل جار على قدم وساق لتحويلها إلى مسلسل تلفزيوني.
لكن في تفاصيل الخبر نجد اللغم الموعود بأن شركة الأخوين الوريثين رودريغو ورونزالو ماركيز هي المنتج المنفذ. وهذا أسوأ ما يمكن لورثة فعله، أي الضرب بعرض الحائط برغبة مورثهم، وتعسفهم كمنتجين منفذين في استخدام حقهم.
قانونيا، الورثة هم أصحاب الحقوق ويحق لهم رمي كل ما يخص مورثهم إلى النهر، لكن في حالات خاصة يجب الحجر على الورثة، خاصة إذا كان الأمر يتعلق بمبدع بحجم ماركيز وأهميته لثقافة قارة بأكملها ولغتها للبشرية جمعاء.
ما أكتبه هنا رأي شخصي لقارئ معجب، قد يكتشف خطأه بعد أشهر قليلة أي حين تصدر الرواية وتكون رائعة، ويعرض المسلسل ويكون حقا إضافة للرواية، لكن متابعتي لأفعال الوريثين تجعلني واثقا من أن الجشع ينقط من أكمام ثوبيهما، وهما مستعدان لبيع كل ما يخص والدهما دون اعتبار لرأيه أو للقيم الوطنية والإنسانية التي يعتزّ بها عشاق كتب الراحل العظيم.
ونحن؟
أما عن حالتنا كعرب في هذا المقام، فنحن نستحق البكاء بكل ما تعنيه كلمة بكاء، يبقى الكاتب العربي رهين حظه في ورثة إما يقدّرون إنتاجه وإما يعتبرونه عبئا ثقيلا يجب التخلص منه بعد عودتهم من دفنه. لا نعرف أين هي أشياء محمد الماغوط، وفاتح المدرس، ولؤي كيالي وغيرهم….
ماتت كتب الكثير من الكتاب مع وفاتهم، لأن ورثتهم غير مهتمين بوجودها في السوق، ودور النشر لا تستطيع التصرف دون موافقتهم، وهم أصلا يعتبرون مهنة الكتابة معيبة وتنتقص من قيمة الكائن، والآن بعد وفاته جرى إغلاق الباب وانتهينا.
شخصيا، أعرف حالات حزينة عن عائلات كتاب لا تعرف قيمة إرث مورثهم، يبيعون كل ما تركه بقروش قليلة لبائعي الأشياء المستعملة، بهدف التخلص من هذه البقايا غير النافعة، كما نفعل حين نوزع أثواب أمواتنا وبقاياهم على العائلات المستورة، أو نتقاسمها للذكرى.
ماذا لو كان لدينا في اللاذقية متحف صغير يضم أشياء أبو علي ياسين والياس مرقص وهاني الراهب، أو متحف في دمشق يضم أشياء نزار قباني وكل ما يخصه، نعم إنهم ليسوا كتابا عالميين لكنهم بالنسبة إلى السوريين أيقونات لها معانيها التي لا تموت. ماذا لو انضمت إلى هذا المتحف الصغير أشياء المفكر ميشيل كيلو ابن المدينة الذي حلم بقبر فيها ولم يحظ به.
ماذا يحصل لو كان لدى مبدعي مصر متاحف تلم أشياءهم لتُعرض للجمهور، كمتحف نجيب محفوظ. ومتحف نجيب سرور، إلخ… وقائمة المبدعين تطول في عالمنا العربي.
بعد الموت يصبح كل ما يخص المبدع ملك ورثته قانونيا، يتصرفون به تصرف المالك بملكه، لن نعدم الأمثلة عن التعسف، أو الأصح سوء الاستخدام في العالم العربي أيضا.
لدينا مسلسل محمود درويش مثالا عن سوء استخدام سلطة الملكية هنا، رغم معرفتي الشخصية التي لا تكفي بالتـأكيد للحكم على هذه الحالة، بأن عائلة الراحل محمود درويش تعاملت بحسن نية، دون أن تفكر بالعواقب فيما بعد. ولدينا مسلسل الشاعر الكبير نزار قباني الذي تسربت أخبار عن عدم موافقة الورثة على إنتاج المسلسل، ورغم ذلك جرى إنتاجه.
المسلسلان يعتبران رمزين حقيقيين للفشل الفني، من النص إلى التمثيل، وباقي عناصر العمل الفني، وما أْعرفه عن مسلسل محمود درويش أن عائلة صاحب “سرير الغريبة”، أعطت الإذن القانونية للمنتج فراس إبراهيم لإنتاجه عن حسن نية كما أسلفت. أما عن أسباب فشله فهي كثيرة جدا ولا يمكن لنا الخوض فيها هنا، ونتائجه كانت مدمرة، وحزينة حتى بالنسبة للمنتج نفسه.
لا يجوز التقليل من أهمية الحقوق القانونية للورثة، لكن يجب تقييدها في بعض الحالات، خاصة في أشياء لا يمكن تكرارها، كأوراق وأشياء وروايات ونصوص ولوحات ونتاجات تشكل إرثا وطنيا، نعتبر خاسرين في حال فقدانه أو تلفه
ما لا يستعاد
وفي الجهة الأخرى نجد نجاحا يمثل بصيص أمل بسيط لنا في مجال تحويل السيرة الذاتية إلى عمل مرئي، كمسلسل “أسمهان” الذي كتبه مجموعة كتاب أبرزهم المخرج الراحل نبيل المالح، وأخرجه الراحل الكبير شوقي الماجري.
نعم، لا يجوز التقليل من أهمية الحقوق القانونية للورثة، لكن يجب تقييدها في بعض الحالات، خاصة في أشياء لا يمكن تكرارها، كأوراق وأشياء وروايات ونصوص ولوحات ونتاجات تشكل إرثا وطنيا، نعتبر خاسرين في حال فقدانه أو تلفه.
نستطيع مرة أخرى إنتاج مسلسل قد يكون ناجحا عن محمود درويش، أو كتابة سيرة ذاتية مهمة لنزار قباني في زمن مقبل، لكننا لا نستطيع استعادة لوحات محمود سعيد إن خرجت من مصر واختفت في خزائن جامعي اللوحات، أو لوحات لؤي كيالي وفاتح المدرس إن خرجت من سوريا. نعم نحن نعيش أسوأ أيامنا، منشغلين بأشياء أخرى خارج الثقافة، الحروب في كل مكان، والانقسام الاجتماعي على أشده، ولا أمل في حياة إنسانية قريبة، لكن لا جديد، فمنذ فجر هذه الأمة، وهي تبيع إرثها للأعداء قبل الأصدقاء.
نشرت على المجلة هنا