تبدأ الرواية بطوفان “عظيم” عام 1907 في قرية (حوش حنا) في مدينة حلب، يدمّر ويطمس كل شيء بعد أن دفنه في الطّمي، وتنتهي بغرق واختفاء شخصية، هي (حنّا). وبين هذين الموتين، الأول جماعي والثاني فردي، تتحرك رواية “لم يصلّ عليهم أحد” للروائي السوري خالد خليفة، والتي صدرت منذ أيام، عن دار العين للنشر، في القاهرة، ودار هاشيت أنطوان.
لكن موت حنّا غريقاً، حمل صبغة خلاصية ما، إذ قام الغرقى السابقون، في طوفان 1907، واصطحبوا حنّا إلى عالمهم، حيث الحياة هناك “طرية والأسماك لا تموت” الجملة الأخيرة في الرواية، وفيها، يحمل الموت “شبهة” حرية وانعتاق وكشف فردوس ضائع.
الرواية، متحرّرة من ضغط يوميات الحدث السوري الحالي، إنما تتضمّنة في تفاصيلها، عبر قلق الهوية وسؤال المصير وتحرّك الشخصيات بين الأموات، والانتقال من غرق إلى غرق، من طوفان إلى ملكوت لا تموت فيه الأسماك، دلالة مبسّطة عن معنى المصير والحياة والحلم، وعندما تأتي في آخر الرواية، فإنها تكشف مصير القارئ فيما كان يبحث، هو ذاته، عن مصير الشخصية!
نبذة عن المؤلف
هكذا، تحضر سوريا، في الرواية، إنما لا كخبر، أو حدث، بل كأدوات مصير روائي. وأن تبدأ رواية بطوفان، فبماذا يمكن أن تنتهي؟ هل ستبدأ حياة كاملة خصبة؟ يبدو أن قيام غرقى سابقين باصطحاب حنّا “من يده” إلى “ملكوتهم” تجيب عن جميع الأسئلة.
ولد الروائي خالد خليفة، عام 1964، في قرية (أورم الصغرى) التابعة لمحافظة حلب، وأصدر أول كتبه عام 1993، برواية (حارس الخديعة) ثم أتبعها بـ(دفتر القرباط) عام 2000، و(مديح الكراهية) عام 2006، وهي الرواية التي وصلت إلى قائمة جائزة البوكر العربية عام 2008، والقائمة الطويلة لجائزة الاندبندنت العالمية عام 2013.
وصدر لخليفة الذي كتب للتلفزيون مسلسل (سيرة آل الجلالي) عام 1999، ومسلسل (هدوء نسبي) عام 2010، ومسلسلات أخرى عديدة، رواية (لا سكاكين في مطابخ هذه المدينة) عام 2014 ووصلت في ذلك العام، إلى قائمة جائزة البوكر العربية القصيرة، ثم رواية (الموت عمل شاق) عام 2016.
متخيّلة وواقعية
ترصد رواية (لم يصلّ عليهم أحد) فترة زمنية من حلب، بين نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين، عبر شخصيات ذهبت ضحية طوفان، وأخرى نجت منه، ويبرز فيها الحُبّ، مقابلا للموت، في جدلية تظهر تفاصيل حلب القديمة التي تشتبك فيها، المجازر بالأمراض والأوبئة، وبمجازر ارتكبها العثمانيون بالأرمن وغيرهم، كما تقول الرواية التي اتّسمت بمهارة أسلوبية فائقة، برأي النقاد، وتحدثت بلسان شخصيات يعبّرون عن تنوّع ديني وقومي واجتماعي وسياسي.
وسيطر خليفة، على مفهوم الزمن في كتابه الأخير، فاستعمله كسرد يتقطع حينا، ويستمر حينا آخر، عبر شخوص تظهر ثم تختفي، إذا ما كان الضمير الروائي يتنقل من الغائب إلى المتكلِّم نفسه. فلا يكون الموتُ، والحالة هذه، بداية نهاية شخصية، بل مجرد جزء من حضورها الذي تستعيده، مرة، وتخسره، مرّة. إنها رواية “متخيّلة” كما يؤكد الكاتب، وهي تزدحم بالمشهديات والصور والتواريخ السابقة: “طوابير من الشباب المقيدي الأرجل والأيادي يقودهم عساكر أتراك إلى الحرب، كانت كافية لشرح ما يحدث، الأمهات يستجدين العساكر القساة، ترك أبنائهن وأزواجهنّ”.
أين حلب الآن من حلب التي في الكتاب؟
ويبحث البعض، عن أثر الحدث السوري الحالي، في الرواية، الحدث السوري الممتد من عام 2011، عام الثورة على نظام الأسد وما خلّفه قمعه لها، من قتلى ودمار وتهجير، فلا يجد الحدث السوري الحالي، كوثائق أو أخبار أو وقائع، إنما كقلق مصير، كطوفان افتتح الرواية أو صنعها. وبهذا المعنى وحسب، فالحدث السوري الحالي، هو جميع الرواية التي كتب فيها عن قتلى، لم يُصلّ عليهم أحد، غرقى يمسكون بيد غريق، ليأخذوه إلى ملكوتهم هُم، آخر الأمر، ثم في آخر الرواية.
وهل قصص السوريين الآن، سوى عن غرقى في بحور الهجرة والهرب، أو قتلى، وأحيانا يقضون مجهولي الهوية؟ حتى أولئك الموصوفين بالقتلى مجهولي الهوية، حضروا في رواية خليفة التي يصرّ على أنها متخيَّلة: “حضر الكاهن والشيخ، ورفضا الصلاة على الجثث غير المعروفة أو ضائعة الملامح”.
رواية سورية تزدحم بالموت والموتى، بطوفان يبدأ، وتنتهي بغريق يستعيده موتى سبقوه “من يده” ذلك أن تفاصيل جسده، حيّة، بمنظور من يريدون نقله إلى خلاصهم. فإن قالت الفلسفة إن اليد المقطوعة ليست يداً، ذلك أنها تستمد هويتها من اتصالها بالجسد، فيد (حنا) التي أمسك بها الغرقى لاصطحابه، حيّة، هي الأخرى، لأنها ما زالت متصلة بجسد حيّ متخيل “اختفى في الأعماق التي سار إليها” ولا بد من الانتباه إلى أن الروائي اختار كلمة (اختفى) على (غرق) وأكمل بأنه (غاصَ) في أعماق النهر، كما لو أنه يتحدث عن غواص أو سبّاح، لا غريق!
هو موتٌ إرادي، لكن صاحبه سيكون، أيضا، من أولئك الذين لن يصلي عليهم أحد، لا لخلاف عقائدي، بل لأنه ذهب إلى حيث “الأسماك لا تموت”. هكذا هناك ضحايا يختزنون كمية مكثّفة للغاية، من المأساة التي هي جزء من تاريخ حلب، أو سوريا، أو محاولة إعادة صوغ ذلك التاريخ.
لا يمكن لمدينة أن يختفي سكّانها!
يصرّ الروائيون، ومنهم خليفة، على وجود ناجٍ واحد على الأقل، لأنه إذا كان الجميع موتى فلن يكون هناك من سينقل الوقائع ويسرد القصة. ومن هنا، فوجود ناج لا يعني وجود أمل، بقدر ما يعني ضرورة تقنية لوجود شاهد يتحدث عمّا حصل للآخرين، فيما هو يتحدث عمّا حل به. ولهذا عندما قام الموتى بـ”اصطحاب” حنّا، آخر الرواية، فذلك لأن مهمته انتهت، كحيّ، ومهمته بدأت، كضحية.
“الآن أشعر بضرورة خروجي إلى البراري، والتمتّع بقوة الاختفاء، كوني منسياً وحيداً مع أصدقائي القلائل جدا”. مقطع من الفصل السابع للرواية، والمعنون بـ(الجوع)، ويبرز فيه، الاحتفاء بالغياب الذي يضغط على كامل العمل، وفيه ينتهي، قبل أن يرسم “الحب المستحيل” صورة لضحاياه، وبعد أن تقول عائشة: “الطفولة تبتعد، لكنها لا تغادرنا أبداً”. ثم قبل هنيهة من غرق حنا، سنجد من يقول: “الآن أعرف أنني في تلك اللحظة، كنت أوقع قرار إعدام حياتي”. كل ما في الرواية، موتٌ متّصل بجسور الشخصيات والأزمنة.
رغم قوة الحب، فقوة المأساة تسيطر. هي تاريخ حلب وتاريخ سوريا والحياة بأشخاصها المرويين الراوين، وليم، وعائشة، وسعاد، وحنّا، وإبراهيم، وزكريا، وماريانا، والبيازيدي، وعازر اليهودي الذي لم يكن “متعصباً” وكان يعتقد بأن من ولد وعاش في حلب، فلا يمكنه “استبدالها بأي مدينة” والضابط العثماني حكمت ضاشوالي الذي لم يطفئ “أحقاده” إلا بالقتل، وشخصيات أخرى، كانت الشاهد، وكانت الغائب، في آن واحد معاً.
ألمٌ سوريّ، روايةٌ، دون الحاجة إلى تذييله بتاريخ، ذلك أن التاريخ الفعلي، يبدأ بولادة الانسان، ونهاية التاريخ الفعلية، تبدأ بموته: “لم يكن الطريق كما توقعت، لم أكن أعرف أنني أخرج من موت إلى موت أقسى، لم نستطع الهرب إلى ذاتنا”. ثم يتعجّب، وفيما يمكن أن يكون الماضي فيه، ترميزا للحاضر الذي يبحث عنه البعض فلا يجدونه صراحة في العمل، بل همساً: “لا يمكن لمدينة أن يختفي سكّانها!”.
نشرت على العربية هنا