حصلت منذ سنوات على منحة لدراسة الماجستير في الجامعة الأمريكية في باريس، وتعرفت إلى بروفيسور مختص بالمقاربات العربية للإعلام، ولكنه كان أكثر اطلاعاً على سياق الدول المغاربية.
في إحدى المرات، حيث كنت قد اجتمعت به بعد أحد الدروس لسؤاله عن أمر ما، قال لي معتذراً: “أعترف إنني مقصر بالمعرفة عن سوريا، ولكنني قرأت رواية لروائي لامع أعتقد أنه سوري، اسمها مديح الكراهية”. اندفعت بحماس وقلت: “هذه رواية خالد خليفة”، وأضفت: “خالد صديقي وهو آتٍ قريباً إلى باريس لبضعة أيام، إن أحببت، أستطيع أن أعرفك إليه”.
نظر إلي البروفيسور وهو يكاد لا يصدق: “حقاً؟”.
وصل خالد إلى باريس، رويت له القصة، فقبل بكرمه المعتاد أن يفرغ بعض الوقت للقاء أستاذي. التقينا في مقهى باريسي، ووصل البروفيسور متهيباً لقاء الأديب، ولكن خالد بأريحيته حول اللقاء إلى جلسة حميمة بين أصدقاء.
لم يتحدث خالد عن الأدب ولا عن الإبداع، بل تحدث عن موضوعه الأثير… الناس في البلد.
روى عن معاناتهم مع الحياة اليومية والصعوبات التي تواجههم في الحصول على الخدمات، وأخذ يسهب في شرح الضغوط التي يعيشها الفقراء والمقهورون. كان البروفيسور يستمع وعيناه تتوسعان من الدهشة، وبعد مرور بعض الوقت، سأل البروفيسور: “وأنت كيف تعيش في هذا الجحيم؟”. ضحك خالد ضحكته المجلجلة وقال: “لأ أنا منيح، لا يزعجني سوى أن غسلة الملابس تحتاج أحياناً إلى يوم كامل كي تنتهي بسبب انقطاع الكهرباء المستمر. استنتج البروفيسور: “لا بد أن الكتابة تخفف عنك”. ضحك خالد مجدداً وقال: “يخفف عني وجود الأصدقاء وأنني أتسلى بكبس المخلل”.
غادرَنا البروفيسور وودع خالد بكثير من الحرارة وشكره على وقته الثمين وعلى هذا اللقاء الذي لا ينسى.
كنت أنتظر أن نبقى وحدنا كي أكرر ما قاله كل الأصدقاء في كل مكان خرج إليه خالد: “خالد ابق هنا، ليش بدك ترجع؟”.
أجاب خالد: “مابقدر يا أنوس، ما بقدر أطلع من البلد، وإن غادرت من سيحرسها في غيابكم جميعاً، من سينتظركم عند عودتكم فاتحاً ذراعيه مرحباً”.
وعاد خالد بعد أيام إلى سوريا. عبر لي البروفيسور بعدها عن أنه لم يتخيل يوماً أن يقابل كاتباً تنعدم أناه إلى هذا الحد، لا يحاول التواضع وإنما لا يعنيه حقاً أن ينظر إليه الآخرون ككاتب كبير بقدر ما يعنيه أن يكون ابن سوريا الحقيقي وصوت أبنائها.
لن أقول وداعاً خالد، ليس لأن وداعك مستحيل فحسب، بل لأن من خلف إرثك الأدبي الكبير خالد أبداً
لا أتذكر متى تعرفت إلى خالد.
لعلنا التقينا وأنا طفلة في موقع تصوير مسلسل “سيرة آل الجلالي”، الذي أخرجه والدي وكتبه خالد، أو ربما في منزل أحد أصدقاء أهلي، ولكنني أتذكر جيداً أن خالد، بمجرد أن كبرت قليلاً، بدأ ببناء صداقة تجمعنا بمعزل عن الصداقة التي تجمعه بأبي وبأمي.
ولا أعتقد أن كاتباً مخضرماً آخر كان سيتحمس لأن تخرج صبية في مطلع عشريناتها نصه كعمل أول لها سوى خالد خليفة. منحني خالد خليفة نص “زمن الخوف”، الصعب والسياسي بامتياز كي يكون أول مسلسل أخرجه بكل ثقة، بل وشجعني وحمسني، وعندما بدأ موعد التصوير بالاقتراب وبدأ القلق يغزوني، كان خالد يشجعني: “قدها وقدود يا زميلة”.
ومنذ ذلك الحين أصبح خالد يلقبني بالزميلة تحبباً، كي يشعرني بأننا ندّان وأننا نعمل معاً على قدم مساواة.
مر عمر كامل ونحن أصدقاء، وفجأة رحل خالد… دون وداع، دون أن نقول ما كان لا بد من قوله.
رحل في دمشق التي أصر على عدم مفارقتها مع وعد بزيارة قريبة إلى فرنسا، وأحاديث مؤجلة.
يدل الرثاء الذي حصدتَ يا خالد أنك حولت كل لقاء عابر، إلى جلسة حميمة مع أصدقاء، ما جعل رحيلك يكسر قلوب كل من عرفك ولو لِماماً. وهل يمكن لمن سمع ضحكتك أن ينساك؟
بحثت في أرشيفي عن صورة تجمعنا فلم أجد. لم نتصور لأننا كنا نفضل أن نقضي الوقت حين نجتمع في الحديث وأحياناً بالغناء وبالاجتماع بالأصدقاء، ولأننا كنا نعتقد أننا نمتلك كل الوقت، كنا سنتصور في دمشق عندما نعود.
لن أقول وداعاً خالد، ليس لأن وداعك مستحيل فحسب، بل لأن من خلف إرثك الأدبي الكبير خالد أبداً، من “دفاتر القرباط” إلى “لم يصل عليهم أحد” مروراً “بمديح الكراهية”.
في روايتك “الموت عمل شاق” شرحت لنا يا خالد، أن الصعب في الرحيل هو معاناة من يخلفهم الراحل وراءه محاولين الحفاظ على ما أوصاهم به، ولكننا لم نفهم بالضبط ما كنت تعنيه حينها.
اليوم، تتركنا مع حمل ثقيل، حمل أن نصنع الأمل والحب رغم مديح الكراهية اللامتناهي كما طلبت، وأن نعمل على حفظ كرامة أهل بلدنا، وأن نسعى لتحقيق وطن حر يليق بكل السوريين الذين أحببتهم.
لن أقول وداعاً، لأن من خلف كل هذا الكم من المحبة في قلوب كل السوريين باق.
يدل الرثاء الذي حصدتَ يا خالد أنك حولت كل لقاء عابر، مثل لقائك مع بروفيسور الجامعة، إلى جلسة حميمة مع أصدقاء، ما جعل رحيلك يكسر قلوب كل من عرفك ولو لماماً، ولو لساعة واحدة. وهل يمكن لمن سمع ضحكتك أن ينساك؟
يواسيني يا صديقي أنك عشت الحياة كما تحب، محاطاً بأصدقائك وبالحب. عشتها منسجماً مع مبادئك التي لم تتنازل عنها رغم كل التضييقات والإزعاجات ومنع السفر وتعرضك للاعتداء من قبل الأمن في بدايات الثورة، عشتها دون أن تغادر بلدك الذي أحببت بعمق وصدق، عشتها متماهياً مع الشعب، أميناً لحكاياته وصوته، وكتبت عنه وله.
لن أقول وداعاً يا صديقي، سأكتفي بكلمة: “شكراً، شكراً خالد”
رثاؤك عصي يا صديقي لأن رحيلك لا يصدق، ولأن صورتك في ذهني وانت ترقص وتضحك هي المرادف لكلمة حياة، فكيف يمكن للحياة أن تنطفئ؟
قد منحتني شرفاً كبيراً وثقة كبيرة عندما قبلت أن أخرج نص زمن الخوف، ولكنك منحتني شرفاً أكبر هو صداقتك على مر العمر الذي مضى.
وأنا ممتنة لأن حياتينا تقاطعتا، ولأنني عرفتك، وللفرصة التي أتحتها لي بأن أتعلم منك حب الناس كما يجب.
لن أقول وداعاً يا صديقي، سأكتفي بكلمة: شكراً، شكراً خالد.
نشرت على رصيف22 هنا