لا يستطيع حيدر ذو الثمانية أعوام مواجهة التشرد في شوارع دمشق فأخوه الذي يكبره بست سنوات يرصد تحركاته وحزامه جاهز ليضربه بقسوة إن تخلف عن التسول ولن يرأف لصراخه ودمائه التي تغطي جسده الصغير، فعائلةٌ من 14 فردا تحتاج قوتا يوميا يعجز عن توفيره الأب العامل في مصنع للعلكة.
قصته شبيهة بيوميات أطفال كثيرين، يتسول بعضهم ويبيع البعض الآخر مواد غذائية كالعلكة والبسكويت طلبا لعطف يضعه البعض في خانة التسول.
وقد باتت هذه الشريحة ظاهرة -بنظر مختصين ومثقفين يدقون ناقوس الخطر- “لكي لا يتحول البلد إلى منتج لبطالة ترتسم معالمها في طفولة مشردة تصور مستقبلا بلا أمل”، حسب ما يقول الكاتب خالد خليفة الذي شارك بإعداد فيلم وثائقي بعنوان “الحجر الأسود” تناول حياة أطفال مشردين من المناطق السكنية العشوائية.
ويشير خليفة إلى أن “ظاهرة الأطفال المشردين تزداد بالأحياء الفقيرة وما نراه في وسط دمشق شيء لا يذكر”. ويدعو الكاتب الحكومة للاعتراف بالظاهرة بدل التعتيم عليها، ويؤكد أن الأعداد كبيرة جدا رغم انعدام الإحصائيات، ويطالب المسؤولين بتحمل مسؤولياتهم والمثقف بإلقاء الضوء عليها.
ويخاطب خليفة وزير الأوقاف قائلا “هل يعقل أن يكون في منطقة الحجر الأسود جامع تكلفة بنائه كفيلة ببناء خمسة مستشفيات في منطقة تعداد سكانها يضاهي النصف مليون وتخلو من المستشفيات؟”.
ويعزو أستاذ علم الاجتماع كامل عمران المتخصص في عمالة الأطفال، الظاهرة إلى الفقر وعدم الوعي بأهمية التعليم رغم إلزاميته في سوريا.
ويقول عمران إن من الضروري إيجاد إحصائيات دقيقة للظاهرة لمعالجتها ولتأهيل الأطفال بتمكينهم من التعليم وتوعيتهم بأهميته، وأيضا بإصلاح النظام التعليمي وبتوفير ومعامل مناسبة من حيث الإعداد والتنظيم لحاجات المجتمع، يشرف عليها مدربون مؤهلون ويتلقى فيها الأطفال أجورا لقاء أعمالهم، مع متابعة تضمن ممارستهم الحرف التي تعلموها.
ودعا عمران المؤسسات الأهلية والمجتمع المحلي لتحمل مسؤولياتهم لأن الظاهرة “خطر وطني ويتوجب التعاون مع الجهات الرسمية للتخلص منه”.
دراسة اليونيسيف
وتعد منظمة الأمم المتحدة للطفولة (يونيسيف) من جهتها دراسة تأمل مسؤولة برنامج حماية الطفل في فرع دمشق سلمى كحالة إنجازها هذا العام، وستتطرق إلى عمالة الشارع والتشرد، وهما ظاهرتان لا توجد إحصاءات بشأنهما في سوريا.
وتقول كحالة إن آخر إحصائية لعمالة الأطفال في سوريا كانت في 2006، وأظهرت أن الأطفال يشكلون 6% من القوة العاملة في دمشق، وهو رقم يرتفع في المحافظات الأخرى.
ويقول مصدر مطلع على علاقة بالملف إن توجيهات القيادات العليا أثمرت فرعا لحماية الأحداث في إدارة الأمن الجنائي وتوجيهًا لتخصيص نظارة لهم، بحيث لا يختلطون ببقية المعتقلين. وأشاد بالاهتمام الخاص الذي توليه عقيلة الرئيس أسماء الأسد للأطفال دون العاشرة.
وتشير الأرقام الرسمية إلى توقيف 270 حدثا العام الماضي في دمشق في حين لا توجد أرقام عن عدد المشردين بشكل عام.
ثغرات قانونية
ويضيف المصدر إن السبب الرئيسي في الظاهرة هو الأسرة، فأغلب الأطفال العاملين والمتشردين يرغمون على العمل بسبب الفقر.
ويتحدث عن ثغرات في القانون الذي يحمي الحدث ويمنع عمالته، لكنه لا يوقف الأطفال دون العاشرة ولا يعتبرهم مسؤولين جزائيا، ولا تزيد مدة من يمكن محاسبته جزائيا عن العشرين يوما، لذا يجب -حسب رأيه- تعديل القوانين وإيجاد عقوبات رادعة للأسر.
ونوه إلى أن نسبة تكرار اعتقال المتشرد والطفل الواحد تفوق 60% ولا يتحرج بعض أهالي المشردين من القول “نريد أن نعيش” ولو كان ذلك على حساب تشرد أولادهم.
قصص مبكية
ويتحدث بعض التجار عن أشخاص يدفعون أجرة ثابتة يوميا لعائلات مقابل استخدام أطفالهم، ويستبدلون آخر الليل ما حصله أطفالهم من قطع نقدية بأوراق من فئة 500 ليرة (حوالي 11 دولارا) أو ألف ليرة.
ويقول حيدر أحد الأطفال العاملين “أبكي باستمرار وأتوسل أخي كي أبقى في المنزل، فأنا أخشى الظلام والضياع بأزقة دمشق لكنني ملزم بالقدوم فأنا أساهم في دفع إيجار المنزل وأحصّل ما يقارب 500 ليرة يوميا ولا خيار أمامي فأنا مرغم على التسول”.
ويضيف “بات اعتقالي كابوسا أحلم به يوميا عدا ما أواجهه من قسوة شبان ينهونني عن التشرد بالضرب”، ولا يخشى حيدر على نفسه فقط بل وعلى أخيه أيضا الذي أرغمه -حسب قوله- أخ آخر يفوقه سنا على مرافقته رغم أنه يصغره بثلاث سنوات.
ويبادر المارة بوضع نقود على بسطة على الرصيف ينام قربها أحمد ذو السنوات الخمس مساء عندما ينهك التعب جسده الصغير ويضع فيها مواد غذائية بسيطة، ويشاركه في ذلك أطفال عديدون يخرجون باكرا للتشرد في الشوارع الباردة شتاء والحارة صيفا، وتتشابه أجوبتهم بشكل لافت.
ويصر أحمد على أنه لا يعاني ولا يخشى الظلام وغدر الشارع، لكنه يضيف ببراءة الأطفال أنه عندما يكبر سيبعد أطفاله عن تلك الأعمال القاسية.
نشرت على الجزيرة هنا