ما بين التغريبتين اللبنانية والسورية، اللتين يختزلهما أديبان مرموقان، إختار أحدهما الرحيل الى الأبد، وتوّج الثاني مسيرة الهجرة الطويلة من الوطن. يمكن “إفتعال” الكثير من أوجه الشبه، التي لا تخلو من الجاذبية، لكنها لا تصمد أمام أي إختبار حقيقي يتعدى الفقد الأدبي.
في ظرف أيام، توجت كلمة الروائي اللبناني أمين معلوف في موقعها النائي، والطبيعي، وخرجت كلمة الروائي السوري خالد خليفة من حيز الوجود، قبل ان تكمل نضوجها، وان تسمح في المضي قدماً في لعبة المقارنات، حتى مع تجربة المهاجر المشرقي الذي بات يحمل سيف اللغة والثقافة الفرنسية. لعل وراثةً ما كانت محتملة بين الرجلين. وها هي الآن أصبحت مستحيلة.
ولذلك، يؤسَف على الراحل السوري الذي انقطعت تجربته في عز شبابها بذلك الموت المفجع. ويُعتب على المغترب اللبناني، الذي باتت مرتبته الفرانكوفونية الرفيعة، مصدراً للخوف من إنقطاع صلته مع عالمه القديم، الذي لطالما جال في أرجائه، ونقّب في تاريخه، وثقافته، فكتب الروائع، الخالدة أكثر من عضوية الأكاديمية الفرنسية.
إستحق خالد قبول أوراق اعتماده في عالم الادباء الكبار الذين يكتبون بالعربية، الخلود شأن آخر كان مرشحاً له. روايته الاخيرة “لم يصلِّ عليهم أحد”، وقبلها “لا سكاكين في مطابخ هذه المدينة”، بلورتا شخصيته الادبية ودفعتاها الى العلى، ما يسمح بتخطي أعماله التلفزيونية الاولى، التي كانت من لزوميات البداية المهنية التجريبية. ولعل هذا التقييم مخطىء، لأنه مبني على موقف سلبي مسبق من الدراما التلفزيونية السورية واللبنانية خاصة، لا سيما في فترة “نهضتها” المسيئة، في غالبها، للتاريخ والاجتماع في كلا البلدين.
على هاتين الروايتين، سيحتل خالد مكاناً مرموقاً في الذاكرة الادبية السورية والعربية، مع أن بقية أعماله أرست أسس بناء لغته وشخصيته، حتى ولو حاذرت كلها مقاربة فكرة الثورة وسرديتها بوصفها على الاقل حلماً سورياً “يناور” النظام الأبدي، ويفشل في مقارعته.. أو يقف على الحدود بينه وبين الشتات السوري الواسع.
حتى هذه التغريبة المواربة التي أسقطت على خالد، لا تحتمل الاندراج في خانة واحدة مع التغريبة الأبعد والأعمق، التي يمثلها المغترب أمين معلوف. ترقيته الى رتبة الحارس الأول للثقافة الفرنسية، والذي يتمتع بالخلود، تركت الانطباع، بان الروائي البارز، غادر نهائياً الى عالمه الجديد، وإستقر أخيراً في موقعه الذي لطالما تمناه وطمح اليه. الانقطاع عن الجذور الاولى صار حُكماً تستدعيه ضرورات المنصب الجديد، وتفرضه، وتحول دون ان يتابع على الاقل رحلاته الاستكشافية في هذا الشرق، ويصيغها روايات أخاذة. اللغة الفرنسية في خطر وكذا الثقافة التي تحملها. صمودهما يحتاج الى كاتب مقدام ومتميز ومهاجر مثل أمين معلوف..لن يكون معنياً بعد الآن بما ينشر له أو عنه باللغة العربية، ربما. أو لعله لن يجد الوقت الكافي لمخاطبة ومحاورة قرائه اللبنانيين والعرب بقدر ما كان.
المعروف عن أمين معلوف أنه ما زال لبنانياً حتى العظم، وهو يتابع الشؤون اللبنانية بأدق تفاصيلها اليومية، وبشكل لا يوازيه أي مهاجر لبناني آخر في فرنسا أو في بقية انحاء العالم. وهذا بلا شك، تعبير عن تمسكه بهويته الاصلية، وروابطه الاسرية والاجتماعية والثقافية. لكن لم يتضح ما إذا كانت تلك المتابعة، هي مجرد روتين يعتمده خبيرٌ في الآثار، ويطل يومياً على الأحفوريات اللبنانية القديمة، التي سبق أن عاش حولها، ووقف يوماً على صخرة شاهقة منها.
حارس الذاكرة الثقافية الفرنسية الأول، ما زال، حتى اليوم، يجد الوقت الكافي للقيام بمثل هذه النزهة السياحية الافتراضية في بلده الاصلي. ربما غداً، سيتبين ان تلك النزهة لا تعوض الاعلان عن أن تغريبته وصلت الى ذروتها.
نشرت على المدن هنا