في أزمنة الضجيج يسود أدب الصوت العالي

من سمات الأدب قدرته كفن على نقل الوقائع والأحداث التاريخية التي تتعرض لها البيئة، والتي يعيشها المجتمع الذي يحتويه أو يتمثله المجال الأدبي، حيث يمكنه تقديم صور مغايرة وكشف أكثر للزوايا المخبوءة في هذا الواقع وإبرازها للضوء. لكن نقل الواقع بطريقة فنية ليس بالأمر السهل أو السريع، بل يحتاج إلى هضم تامّ ووعي حادّ من قبل الكاتب. “العرب” حاورت الروائي السوري خالد خليفة، الذي نجح في نقل واقع الحرب والثورة في بلده بشكل فني في قالب سردي مغاير.

معروف عن الروائي وكاتب السيناريو السوري خالد خليفة عدم اكتراثه، بل وربما تحدّيه، للرقيب خلال كتابة رواياته، لكن ربما كان الأمر مختلفا في ما يتعلق بالرقيب الدرامي، حيث يتدخل التقييم السياسي بالتجاري بالمزاج الشعبي، ربما خوفا من شركات الإنتاج من الحظر أو المنع أو إقفال الأسواق، فضلا عن أن الدراما فن جماهيري وليست فنا لنخبة مثقفة كالكتابة.

يؤكّد خليفة أن كتّاب الدراما يعرفون مسبقا شروط اللعب وقوانينه ولا يحتاجون إلى رقيب، ويقول إن الكاتب قبل التصوير هو النجم الأوحد والرئيسي لأيّ عمل درامي، لكنه نجم اختار العيش في الظل، كما يشدّد على أن التمثيل هو مهنة قائمة على الظهور، بينما الكتابة قائمة على الاختفاء.

الرواية والدراما

يقول ضيفنا الذي يُعتبر من أهم الروائيين العرب المعاصرين “تُنتِج الدراما التلفزيونية قوانين رقابتها دون الحاجة إلى موظف رقيب، فالمحطات التي تعرض، والإنتاج الذي يُموّل، والمشاهد الذي يتلقى، هذه الأقانيم هي التي تُنتج الرقابة، وتأتي الرقابة الرسمية لتتوّج وتتواطأ مع هذه الرقابات، لذلك فإن الموضوع أعقد بكثير من فكرة نخبة وجماهيرية، بل مجموعة نظم تحكم عمل الدراما، وهي التي تجعلها غير قادرة على تجاوز الخوف من الحظر أو المنع. وكل كتّاب الدراما يعرفون مسبقا شروط اللعب وقوانينه، والتجاوزات التي حققها الكتّاب السوريون لم تكن سهلة ولا بسيطة أبدا خلال العشرين سنة الماضية من عمر الإنتاج الدرامي”.

في عالم الكتابة، يكون الكاتب المُبدع نجما أوحد، خاصة إن كانت كتاباته مميزة وحصدت جمهورا ونقدا إيجابيا وجوائز، وهو ما يحظى به خليفة، ورغم توازي إبداعه الروائي مع إبداع في كتابة الدراما، إلا أن الكثيرين يعتقدون أن شهرته الروائية (الشخصية) أقوى من شهرته الدرامية، على الرغم من أهمية الأعمال الدرامية التي قدّمها.

وحول هذا يقول صاحب رواية “لا سكاكين في مطابخ هذه المدينة” ذائعة الصيت، وكاتب مسلسل “العراب – نادي الشرق” الذي حاز على جماهيرية ومتابعة مثيرة للانتباه، “أتمنى هذا، وعموما أيّ شهرة في الدراما هي مؤقتة، ولا يمكن لها أن تدوم، وهذه كما أسلفت من قوانين اللعبة الدرامية، وفي العمل الجماعي يأتي الكاتب في الدرجة الثالثة، بعد الممثلين والمخرج الذي يُنسب إليه العمل، لكن قبل التصوير الكاتب هو النجم الأوحد والرئيسي، لكنه نجم اختار العيش في الظل”.

وعن سرقة نجومية الممثلين الأضواء من الكاتب الدرامي، الذي هو “النجم الأوحد القابع في الظل”، يعلق ضيفنا “طبيعي أن مهنة التمثيل قائمة أصلا على الظهور، بينما الكتابة مهنة قائمة على الاختفاء، ولا أعتقد بأنني ككاتب يجب أن أقاتل من أجل الشهرة، خاصة وأن الشهرة في حقيقتها كارثة يومية وإنسانية إذا فكرنا في مضمونها، أنا شخصيا أشفق على أصدقائي الممثلين الذين يربطون حياتهم بفرص الظهور. بينما يحق لي التنعم في روعة الاختفاء والعيش في الظل”.

لا علاقة لموقف الكاتب من قضية نبيلة بقيمة كتابته، ففي التاريخ الكثير من العباقرة كانوا مؤيدين للنازية مثلا

من جانب آخر يلفت خليفة إلى أن أسئلة الحرية وسيرة السجون والثورات كانت جزءا من يومياته ولم تكن طارئة يوما عن قناعاته، مشيرا إلى أن مستقبل الإبداع سيتوقف على طريقة انتهاء الأنظمة والحروب ونسبة انتصار الثورات.

الأدب والثورة

عُرف خليفة بمواقفه المُناصرة للثورة في سوريا، ولكل الثورات العربية التي يمكن أن تقوم ضد أنظمة شمولية، وقد أكّد مشروعيتها كخيار لا بديل عنه في مواجهة الظلم، كل أنواع الظلم، ولم يكن لموقفه تأثير على مستوى انتشار أعماله الأدبية ورواجها، باعتبار أنها كانت كذلك حتى قبل الثورة. وتدور حوارات وجدل حول مدى ضرورة التزام الكتّاب والمبدعين بقضايا شعوبهم السياسية خاصة، خاصة بعد الربيع العربي، وتنقسم الآراء، خاصة مع انقسام هؤلاء المبدعين بين مؤيد للثورات ومؤيد للأنظمة، حيث يطغى كثيرا الرأي الذي يؤكد على أن روائيا أو أديبا بلا قضية، هو أديب غير كامل.

لكن خليفة يرى غير ذلك، ويرفض الربط بين مستوى الإبداع ومستوى التأييد أو معارضة الثورة، مستشهدا بمبدعين أزليين، يقول “لا علاقة لموقف الكاتب من قضية نبيلة بقيمة كتابته، ففي التاريخ الكثير من العباقرة كانوا مؤيدين للنازية أو للأفكار الفاشية، لكن التاريخ احتفظ بكتاباتهم كمثال بارز على قوة الكتابة، لكن نسبة الكتاب الذين انحازوا للقيم الإنسانية وقضاياها العادلة هم أكثر بكثير من الكتاب الذين انحازوا للفاشيات، والتاريخ بارد في تقييمه للكتابة، لا تعنيه إلا الكتابة الجيدة، خاصة وأن الكثير من القضايا العادلة تحوّلت إلى قطعة حلوى فاسدة تجذب أرباع المواهب لامتطائها”.

وحول ما إذا كان هناك دور للأدب (رواية، شعر، قصة) في توجيه الثورات ورفع وعي أصحابها، يقول خليفة “لم يتعامل الأدب مع الأحداث المباشرة يوما، لكن الأدب قد يُساهم في الدفاع عن السرديات التي من مصلحة جميع القتلة طمسها، وفي الثورة السورية عدد الذين يريدون طمس سردياتها الحقيقية أكبر بكثير من الذين يريدون كتابتها كجزء من الحقيقة، وأول هؤلاء الراغبين في طمس هذه الحقيقة النظام وحلفاؤه، وهناك أيضا أطراف تعيش تحت راية الثورة السورية للأسف وتقتات من دماء السوريين تريد طمس سردية هذه الثورة”.

الثورات كاشفة للاصطفافات، لذا نسأل الكاتب عن مستوى تأثير الاصطفافات السياسية التي تشهدها سوريا في الأدب، وفي مستقبل الإبداع، ليجيب أن هذه الاصطفافات كانت موجودة قبل الثورة، لكن جرى ترسيم الحدود بينها بعد الثورة، وينطبق هذا على ما تحدث عنه سابقا من نسبة المؤيدين الذين أيّدوا النظام طوال حياتهم، وكانوا يستخدمون مفردات المعارضة كنوع من “البرستيج”، لكن الثورة في رأيه كشفت الغطاء.

نتطرق مع ضيفنا إلى الحديث عن قدرة الأدباء، الموالين والمعارضين، خلال السنوات الأخيرة، على تقديم ما يفيد قضيتهم، أم أن تلك الفترة كانت فترة موات إبداعي، ليقول “لقد كانت هناك محاولات كثيرة، لكن في الحقيقة إن العالم لا يريد أن يسمع، ففي فترات الضجيج تسود دوما قوانين الصوت العالي، الذي يناقض الإبداع، والمطلوب اليوم مجموعة ندّابين يثيرون تعاطف الغرب أو المؤسسات التي تهتم باللاجئين، أما الفن العميق فمنذ الأزل يجري ببطء وهدوء، ويقطع كل الحواجز ليصل إلى مستقره”.

ويضيف خالد خليفة “الكمّ في الأدب الراهن هائل، لكن النوعية ليست بخير، هذه حقيقة، ولكن الشيء الجيّد والرائع هو دخول فئات كانت تعتبر بأن حقها في التعبير معدوم، فالكثير من التجارب الشابة ستتوقف عن ممارسة الضجيج ومكاسبه الآنية السخيفة، وتتجه نحو البحث في ذاتها عن وسائل تعبير تليق بالزمن الذي يعيشونه، وفرصة البحث عن مواهبهم مرة أخرى ستكون حاسمة، وأضواء المنظمات المتعاطفة مع فكرة المهاجر واللاجئ ستنطفئ وسيبرز سؤال الإبداع بالقسوة التي لا يحتملها إلا المبدع”.

نشرت على موقع صحيفة العرب هنا والنسخة المطبوعة هنا

المصدر
صحيفة العرب
زر الذهاب إلى الأعلى