ربما يكون أي عمل يقوم به الانسان هو شروع بالتحدي ,تحد مزدوج .الأول وهو القدرة على استنخاب مجموعة من القدرات والامكانات اللازمة لهذا العمل , والثاني هو تحدي الواقع ,حتى بفرض أن يكون هذا الواقع ليس معاديا .
أما أن يشرع خالد خليفة بكتابة رواية جديدة بعد رواية( مديح الكراهية ) فهذا يفتح مرّة أخرى كل أبواب التحدّي :اللّغة ..الموضوع ..الشخصيات ..الأحداث ..
كل من عاش في هذه المدينة (حلب) ثم غادرها, لم يستطع أن يخفي معاناته من نوبات (مرض الحنين ) منهم من ظهرت أعراض مرضهم بالتحدث باسهاب عن المطبخ الحلبي ومنهم من تذكر حلب قبل أن تنقسم الى ضفتين. تذكر الترامواي .والحديقة العامة و قلعة حلب و أبوابها و جوامعها و كنائسها و مقاهيها ….ثم سّكة حديد ميدان أكبس ..و منهم من تذكر أسماء العائلات الحلبية و الأسماء المفخمة العثمانية …
و حتى الروائي خالد خليفة يأمل في هذه الرواية التي كابد فيها كثيرا , أن يشفى من أعراض هذا المرض عندما يقول في الصفحة 14 على لسان الراوي (ان حلب مكان زائل كما النسيان ,كل ماسيبقى من صورها الحقيقية أكذوبة نعيد اختراعها كل يوم كي لانموت ) و ربما يقصد أن الصورة لن تكون حقيقية أبدا بعد كل هذا الخراب .
هذا الموت ,سنجده في بداية كل فصل في الرواية .. كما سنجده يسكن في ثنائية الألفة والوجع .
و يحتاج الروائي خالد (كما نحن أيضا) إلى زمن طويل شيئا ما حتى يقول ماكان يريد أن يعبر عنه في وقت مضى ..و ربما كان هذا الفاصل الزمني أحد الأسباب التي جعلته يكابد في النص لا كي يتذكرّ ,بل كي يشفى من ذاكرته .
الأم في الفصل الأول (حقول الخس)
يبدأ الرّاوي السطر الأول من رواية خالد خليفة (لا سكاكين في مطابخ هذه المدينة) : (في طريقي الى المنزل تذكرت أن أمي لم تبلغ الخامسة والستين من عمرها كي تموت بهذه الطريقة المفاجئة ص 7)
هذه المرأة التي أصبحت الأم (ليس لها اسم في الرواية) ..معلمة في مدرسة ابتدائية (علمّت طلابها الإصغاء إلى أنفسهم) عاشت مايكفيها من الأوجاع ومن الأوهام أيضا.هجرها زوجها (زهير) بأن سافر مع ايلينا الامريكية ,منقبة الآثار التي تكبره بثلاثة عقود (ايلينا هذه التي قدمت لها الأم القهوة وعلمتها صنع مربى المشمش ) ولم يكن سفر الأب هذا الّاهروبا و غيابا وانسحاقا نهائيا له ككائن وكرمز ليكون ملبّيا لترف ايلينا وسيكون بلا أحلام ولاذاكرة وحتى بلا أثر…
وعادة تكون علاقة الأولاد بالأخوال قوية في مجتمعاتنا ..اما بغياب الأب ستصبح هذه العلاقة أساسية ولايمكن الاستغناء عنها (الأخوال عبد المنعم و نزار) ولن يكون وجودهم إلاّ شاهدا على ( الموت الذي يتمدّد ثقيلا في شوارع حلب الموحشة الى درجة لاتطاق..
طلب الجنود منهم حمل التابوت ليصلّي عليه شيخ كان بانتظارهم ..لم يسمح لهما بالتحديق في العينين المنطفئتين واحتضانه كما يليق بدفن شقيق ..ص 9).
هذاالموت هو الذي يظهر دائما .موت الأم وموت أخت الراوي (سعاد) التي كانت لأسابيع قليلة تهذي قبل موتها هو
(ماجعلنا نفكر بمصيرنا ..أصبحت صورتنا العائلية المعلقة على جدار الصالون مصدر ثقل نفسي نحاول تحاشيه ,وكذبا فاحشا لايمكن اخفاؤه ص 12).
كما أن الموت يعّبر عنه في الصفحة 13 بأنه (غياب من نحب) ,وفي الصفحة 14 يخبر الراوي أخته بعد سنوات طويلة بأن (الموت هو اكتمال الذكريات وليس غيابا أبديا)
هذا الموت ليس ذلك الموت الطبيعي القدري ..بل انه الموت المجلل بمشاعر العار والضعف وعدم القدرة على القيام باي شيئ لمقاومة من أحدث كل هذا العار والخوف .
ربما نجد عوامل مشتركة بين الحكاية والرواية ..فالحكاية تحكي ماحدث في الماضي .
أما الرواية هذه فهي هنا تعبر عن الماضي الذي لايدعنا نغادر أبوابه دون أن نشعر بالعار. وكمن يرى حلما ,في صوره الأولى تبدو الأحداث عادية ثم عندما تنكشف وتتعمق ببعض التفاصيل التي تصبح مدهشة وموجعة, تظهر لديك الأحلام المقتولة و المغتصبة و السكاكين الموجهة للداخل ..هي هذه الرواية كحلم يشعرك بأنه كابوسك الذي عشته كل هذا العمر
و ربما تكون الرواية أحلام يقظة مريرة و هذه الأحلام يراها الروائي و الرّاوي كتداعيات للخراب الذي بدأ مع ولادة الرّاوي في 1963 بنفس التاريخ الذي حل معلنا الخراب واستباحة كل شيئ في هذه المدينة عبر الانقلاب الذي زرع مئات العبوات الناسفة في احشائنا ولم نستطع ابطال مفعولها أبدا.
الفصل الثاني :عنق ملوكي وحذاء احمر
أيضا هذا الفصل يبدأ بالموت :(لم أسأل كيف حدث الموت.عرفت أنّه حدث أوّل المساء,..جدي لأمي جلال النابلسي عاش سبعة و ثمانين عاما …و في ذكرى يوم الاستقلال العشرين …عرّج على محطة بغداد ليرمي السلام على موظفين سئموه ,فلم يمدّوا أيديهم لانتشاله حين فقد توازنه على الرصيف الأول ليموت تحت عجلات قطار بضائع بطيئ ص85)
نزار (أحد الأخوال) يكتشف جنسيته المثلية (بعد بلوغه أحسّ بطيف يخطف بصره, مجموعة أحاسيس شبقة حوّلته الى امرأة تشعر برغبة لا يعرف سرّها ص 93)
نزار تواطأ الجميع ضده وسلموه للشرطة وتم ّحبسه ستة أشهرفي سجن حلب المركزي..و في اليوم التالي له في السجن (أجبره الشيخ جمعة امام صلاة الجمعة على تنظيف أرضية المهجع ,و في الليل قاده الى المرحاض,اغتصبه بالقوة وطلب منه التأوّه كامرأة,محتفظابه خادما يغسل له جواربه وبتحسس عضوه صباحا اثناء الوضوء… ص 95)
و يفكر نزار :(أن حياتنا مجموعة روائح مغتصبة نقضي عمرنا بأكمله للتخلص منها ص 97-98)
نزار الذي يؤلف مقطوعات موسيقية و يعزف ألحانا خاصة به يتعرض مرة أخرى لاغتصاب من نوع آخر عندما يشتري نديم الأغواني مغني السلطة اسطوانته
(ظلال الندم) بسعر بخس …و من ثم يتحول نزار الى عازف رخيص في الكباريه ..وهنا ينتهي هذا الفصل القصير على امتداد عشرين صفحة …
الفصل الثالث بعنوان جثث متفسخة
يمكنني اعتمادا على مضمون هذا الفصل أن أعطيه عنوانا آخرا مستمدا من الكلمات نفسها (حياة موازية ) فعلى لسان الراوي يقول :
(فكرّت كثيرا بألم حياتي التي ارتبطت بانقلاب الحزب واستلامه السلطة ,عشنا حياة موازية طوال عمرنا و لم نلتق….أكثر من تسعين بالميّة من السوريين عاشوا حياة موازية مع الحزب و النظام الذي حكم بكل هذا البطش..انقسمت البلد الى ضفتين ,على الضفة الأولى مرتزقة لايعرفون شيئا عن الضفة الأخرى التي تتناسل فيها الحياة ,تجري بهدوء و بطء و تعرف كل شيئ عن ضفة أهل النظام ..ص116)
لكن المرتزقة و من يعيش في الضفة الأخرى كانوا يكتبون التقارير المرفوعة الى الآلهة الصغار بكل شيئ يتعلق بحياة البشر و الحجر في الضفة الأولى و حتى كانت بعض التقارير ترفع ضد بعض المقربين من الضفة الأولى
يقول الراوي واصفا حلب في أواخر الثمانينات :(رغم تحوّل أكثر من ثلاثة أرباع أحيائها الى عشوائيّات غير صالحة للحياة ,فيها انتشرت الجريمة ,ملتحون يلاحقون بكبت في وضح النهار أيّة امرأة ترتدي ملابس قصيرة ,يذهبون الى المحاكم ان قبض عليهم ,و يخطبون في جموع القضاة عن الشرف والانحلال الاخلاقي و حقهم محاسبة المستهترين بتعاليم الدين الحنيف .مهرجان جنون حقيقي ..أصبحت حلب مدينة مستباحة لخوف لم يتوقف, مدينة معاقبة ,تئنّ تحت رغبات رجال مخابرات ومسؤولين فاسدين لايتقنون شيئا الاّ الولاء و عقد حلقات الدبكة في استفتاءات الرئيس .ص143)
لم يبق أمام بعض الناس الحالمين من أهالي حلب الاّ السفر(الى اميركا ودبي وباريس
يطبخون في نهاية الاسبوع أطعمة مدينتهم ,صاحبة أعظم مطبخ في التاريخ ,و يتحدثون لزملائهم الأجانب عن تاريخ كل طبخة ب اسهاب …ص145)
الفصل الرابع طرق غامضة
رشيد الذي تعلم الموسيقى على يد خاله نزار انعطف الى الدين في نفس الفترة التي أعلن فيها الحداد على الرئيس ..وصار يبشّر بالهداية ,هداية بنات الليل يتبرع بايصالهن للمحسنين من أجل الزواج او تأمين العمل لهنّ..وأصبح يعزف اناشيد دينية….
الصورة السعيدة لتاريخ رشيد لم تغادره رغم تديّنه الجديد (تختلط مع صور ةأمّه,التي تأتيه في الحلم مختلطة مع صورة احدى أشهر الراقصات ,التي أخبرته ساخرة حين حاول هدايتها, أنها ستكتب ذات يوم مذكّراتها , وتفضح كل شيوخ حلب الذين راودوها عن نفسها, وتكمل بأنها كانت تستدعى أحيانا الى مزارع تجار أغنياء,يتوضؤون,ويكتب لها المشايخ عقود زواج عرفي ,ثم يأتي المشايخ أنفسهم صباحا ليطلقوها ويباركوا تقوى أزواجها الذين لاتستطيع حصرهم ص199) هذا التحوّل الذي جرى في حياة رشيد ..جعله جاهزا للالتحاق بمجموعات اسلامية ذهبت للعراق كي تدافع عن الاسلام !!
اعتقل رشيد كمعظم أعضاء هذه المجموعات التي هناك اسئلة كثيرة ومليئة باللوثة والغموض حول كيفية انشاء هذه المجموعات و كيفية تنظيمها و دعمها و انهيار قسم منها في الصحراء العراقية أو في السجون العراقية أو الوقوع في أيدي المخابرات الأمريكية … ,و استطاع رشيد بذكاء و حنكة, أن يفتّق خياله كي يفلت من أيدي المحققين الأمريكان و يحافظ على بقائه ويتمسك ب أي أمل للبقاء …لكن بعد أن يعود الى حلب تنتابه مشاعر غريبة ( بالموت الارادي )والذي ينتج عن مايسمى صدمات مابعد الحرب,(ساعات طويلة قضيناها قرب رشيد ,الذي أعاد رسم وجوه رفاقه ,تحدث عن بغداد ,أعاد عشرات المرّات مشهد نهردجلة و جثث مجهولين تطفو على صفحته ,ولا أحد يكترث بعبورها نحو المصب..ص254) ثم يضيف رشيد (هذا هو الموت وليس اكتمال الذكريات ص255) ويخبرنا الراوي في آخر صفحة من الفصل الأخير من الرواية و على لسان خاله نزار: (كان يعرف بأنه سيموت ,و انتظر الفجر…وقد ربط الأنشوطة بشكل جيد ,كي لايترك مجالا للشك بأن الموت بسيط كدلق كأس ماء على أرض جافّة .ص255)
هذا التحول في حياة رشيد كان قد أغضب أخته سوسن التي أطلق عليها في مرّة من المراّت( أميرة العالم ).
سوسن ..أميرة العالم كما يسميها شقيقها رشيد
سوسن هي من أكثر الشخصيات درامية في هذه الرواية .. بأحلامها و سفرها و علاقاتها و أفكارها و تقلباتها فهي تمثّل طموحات قطاع من النساء وقد اندفعن بطريق مزدوج :
تحرير أنفسهن من القوالب العفنة التي وضعن فيها ,و بنفس الوقت التأثير على المجتمع الذي يجد شرفه متعلقا بالمرأة لا بكرامته و عبوديته التي يحددها النظام و الشرائع الدينية او التقليدية …كأن سوسن نصف الرواية من ناحية القيمة الفنية و السردية ..حاصرها خوفها مراّت كثيرة ف آمنت بفكر الحزب القومي ..ثم ندمت على ايمانها ثم اعجبت بصورة غيفارا ..ثم لبست الحجاب ثم احرقته أمام الناس ,,…سوسن رغم كل شيئ كانت تشعر برعب بهزيمتها و هزيمة الذكور ..كانت تريد أن تحذف شيئا من ماضيها التعيس ..بصقت على أمها أثناء موت أختها سعاد ..أحبّت أستاذها جان عبد المسيح مدرس اللغة الفرنسية وكانت في الصف الحادي عشر وألقت بظلال الحب على جان الذي لم يعرف منذ ذلك الوقت طعم النوم اللذيذ بالاضافة الى شعوره بالعار:
عار وجوده تحت سلطة الحزب و رؤيته لزملائه يدبكون مفتخرين بانجازات الخراب.
هؤلاء الزملاء الذين لم يتحمّلوا أن يروا جان عبد المسيح مختلفا عن قطيعيتهم و عبوديتهم وطريقة موتهم ..فلجأوا الى كتابة التقارير ضد جان ليتم فصله من التدريس بعد التحقيق الطويل معه وقد استطاع قريب له تخليصه من براثن التحقيق لدى الفروع الأمنية عبر الرشاوي.ليتخلص منهم جان بما يشبه طريقة تخلص رشيد من أيدي المحققين الأمريكان ..لكن جان لم يتخلص من مشاعره تجاه سوسن وحتى بعد ربع قرن من أول لقاء له بها ..قاسمته سوسن غرفته وفصل شتاء ,وحملت منه جنينا أبدت رغبة لا ترد بالاحتفاظ بجنينها ..ثم تترك جان وتأخذ معها جنينها وتسافر عبر مطار حلب مع رفيق خالها,(ميشيل الحايك ) الى باريس, كزوج وزوجة
نشرت على صفحة الكاتب الشخصية على فايسبوك هنا