خالد خليفة صديق السوريين والصيادين والبنائين والأطفال والعمال والسائقين، صديق البحر وحبيبه ورفيقه، يطل صباحاً من شرفة الشاليه على بحر اللاذقية ويعشق البلاد أكثر ويحب أنه خُلق فيها وتماهى معها وكتب عنها. خالد الذي أحب كونه سورياً أكثر من أي شيء آخر… نعم مات أكثر من أحب سوريا وأخلص لها.
على أريكته وسط منزله في دمشق، توقف قلب خالد خليفة، الروائي السوري والسيناريست وصديق السوريين جميعاً، وحيداً مات كما شعر دوماً، ولم يكن إحساسه بالوحدة تقصيراً من الأصدقاء بقدر كونه صفة ملازمة لخالد، سمة فيه، وهي في الوقت ذاته كانت بوابته لفهم الإنسان والحصول على الكثير من الأصدقاء.
في حواري الأخير مع خالد سألته عن علاقته بالموت، يعلم المطلع على أعماله وحياته أنه يتحدث كثيراً عن الموت وله تاريخ طويل معه، يكفي أن واحدة من أشهر رواياته سماها “الموت عملٌ شاق”. كان إجابة خالد عن سؤالي: ” في أثناء الحرب، أصبح الموت بالنسبة إلي حدثاً طبيعياً، انتظرت موتي مرات عدة. استسلمت للأمر، ولم أعد أفكر كثيراً بتلك الرهبة التي يثيرها مجرد الحديث عنه، ولم أعد متطيراً. قد يكون تطوير هذه العلاقة فعلاً مريحاً بالنسبة إلي. لكن التفكير الطويل الذي تستغرقه كتابة الموت يحوّل معناه إلى فعل يومي، كالأكل والشرب. ساعدتني الكتابة على تقبّله، وتجميله أيضاً. ابتعدت فكرة الانتحار إلى زوايا غامضة، فمنذ خمس سنوات لم أعد أفكر بذلك”.
منذ سمعت بخبر رحيله، قرأت إجابة خالد عشرات المرات، وكأنه قال هذه الإجابة بالتحديد ليواسيني عند رحيله وليخفف من صدمة فقدانه. إذاً هكذا، طوّر خالد علاقته بالموت من خلال الكتابة، وحوّلها إلى علاقة مريحة. والآن، أسأل نفسي: هل أنت مرتاح يا خالد، إنها اللحظات الأخيرة قبل أن توارى الثرى؟ هل اكتملت علاقتك الطيبة مع الموت؟ لستُ في دمشق لأودّعك، وهذا أكثر ما يحزّ في نفسي، لن أرى كيف تحول الموت في الواقع إلى فعل يومي حتى فعلته في النهاية وذهبت إليه.
لم يعد الموت عملاً شاقاً يا خالد، لقد استسلمت له تماماً، هكذا إذاً، ترحل وتتركنا لنستمر في شقائنا، تتركنا مع مشقة موتنا. نحتاج جميعاً من يواسينا، تخيل أن تترك بلداً كاملاً خلفك يحتاج إلى المواساة، وأنا أيضاً أحتاج إلى المواساة، أحتاج أن تقول لي مرة أخرى أن كل شيء سيكون بخير وأن الأيام القاسية تمضي بوجود الرفاق قربنا، لكن ماذا نفعل إذا رحل الرفاق مثلك؟ من سيذكرنا كيف يمكن أن نحب البلاد حقاً، وكيف يمكن أن يصير كاتبٌ مثلك مختصراً سورياً، أن يصبح وطناً داخل وطن متعب، نلجأ إليه لنتشارك الحياة بأبسط صورها.
خالد الاسم الكبير، بقي قريباً من الإنسان رغم كل شهرته، لم يرتدِ هيئة الروائي المشهور حتى أنه كره الثياب الرسمية وحافظ على لباسه البسيط كما حياته، لم يلتقِ بالناس لأنهم مثله روائيون أو كتاب مشهورون، التقى بهم وأحبهم لأنهم أناس عاديون. تشارك مع قرائه ومعجبيه وأصدقائه الأحاديث، أخبر الجميع كم أحبّ سوريا، التي رفض تركها وبقي فيها يعاني ككل سوري رغم أنه امتلك مئات الفرص للعيش في الخارج، هانئ البال غير خائف أو قلق، لكنه اختار سوريا ولم يندم يوماً على ذلك. خالد خليفة صديق السوريين والصيادين والبنائين والأطفال والعمال والسائقين، صديق البحر وحبيبه ورفيقه، يطل صباحاً من شرفة الشاليه على بحر اللاذقية ويعشق البلاد أكثر ويحب أنه خُلق فيها وتماهى معها وكتب عنها. خالد الذي أحب كونه سورياً أكثر من أي شيء آخر… نعم مات أكثر من أحب سوريا وأخلص لها.
خلودة قلت لي حين طلبت منك حواراً قبل أشهر أنك لن ترفض لي طلباً، فأنا صديقتك، فإذا طلبت منك اليوم أن تعود، هل يمكن أيضاً ألّا ترفض لي طلباً لأني صديقتك؟
تعرض خالد للأذى والمساءلة من السلطات السورية طوال سنوات، فعام 2012 اعتُقل خالد ليومين على خلفية مشاركته في تشييع جنازة لشهداء الثورة، وأُفرج عنه بعدما تم كسر يده. كانت رسالة شديدة الوضوح، سنكسر اليد التي تكتب وتعبر بها، لكن خالد لم يتوقف، حمته محبة الناس له وعالميته، ولذلك ربما ترددت السلطات في اعتقاله مجدداً، لكنه كان دوماً على مرمى الأوغاد وتحت نظرهم.
منح خالد السوريين الطمأنينة والقوة، من خلال وجوده داخل سوريا، لقد قال آراءه بالسلطة وعبّر عن رفضه للقمع والديكتاتورية وعن إيمانه بالحرية، ومنحنا نحن الذين كنا ما زلنا في الداخل أملاً، حقيقةً، نعم نستطيع أن نكون أحراراً بالداخل، خالد كان صوتنا حينما عجزنا عن البوح، وكما جُبرت يده المكسورة بعد خروجه، جبّرَ أرواحنا المتعبة وقال لنا إن الحرية موجودة وأنا أشعر بها في كل لحظة.
اختلف كثيرون على كتابته، فالبعض قال إنها لا تستحق كل هذه الشهرة العالمية والاحتفاء، والبعض الآخر اعتبره كاتب سوريا الأول، لكن الجميع اتفق على شيء واحد، على إنسانية خالد، صدقه ومحبته اللامشروطة للجميع، قربه من الكتاب الصغار قبل الكبار. في عام 2020، كنتُ أمرّ بمرحلة نفسية سيئة وكنت أعاني على أكثر من صعيد، قال لي خالد: “تعي على شاليه الندم، قضي أسبوع بترتاحي”، فصعدت أول بولمن متّجهٍ من دمشق إلى اللاذقية، وجدت خالد ينتظرني في الكراج مع سيارته الصغيرة والمتواضعة، لا يحب خالد المظاهر ولا السيارات الفاخرة، “شو بدي فيها كلهن سيارات”، كان يقول ساخراً أصلاً من أنه يمتلك سيارة.
شاليه الندم هو المكان الذي عمل عليه خالد خلال السنوات الخمس الأخيرة من حياته، صنع منه مساحة للكتابة وللقاء الأصدقاء، هو مكان يخصه ويخص الجميع، لا أتذكر تماماً لماذا سماه الندم، لكنني أدرك ألّا اسم أفضل كان يمكن أن يطلق على ذلك المكان، وكأن خالد كان يجهزنا جميعاً لندم طويل بعد رحيله.
في شاليه الندم كان خالد قد جهز غرفة الضيوف لي، كان حريصاً على أن أشعر بالراحة والأمان وأن تكون هذه الرحلة فرصة حقيقية لأُخرج كل ما في قلبي من ألم وأعود إلى مسار حياتي. لم يشفني حينها البحر ربما وإنما رعاية خالد لي. قرب الشومينيه كنا نتحدث عن قصص حبنا الفاشلة، أخبرته عن الرجال السيئين الذين مروا في حياتي، وعن أشكال الحب المشوّهة، لكنه كان مصراً على أن الحب موجودٌ في مكان ما وسألتقيه في يومٍ ما. في شاليه الندم شربنا النبيذ والشمبانيا، هناك انقطعت الكهرباء لساعاتٍ، فأصبح المكان أكثر حميمية قرب النار، في ذلك المكان راقبتُ حياة خالد البسيطة والغنية في الوقت ذاته، يستيقظ باكراً جداً ويبدأ الكتابة، حاول أكثر من مرة إيقاظي باكراً لأكتب وأتابع العمل على روايتي، لكن أعتقد أنه استسلم في النهاية للبنت التي تحب النوم كثيراً. والآن، حين أنتهي من كتابتها، ستظل روايتي ناقصة لأنه لم يقرأها.
خالد من الأشخاص الثابتين في حياتي الذين لم تزعزعهم لا المصالح ولا النميمة ولا قذارة الوسط الثقافي، لطالما كره عداوات الوسط التي طاولته كثيراً وطويلاً، فالرجل الذي تُرجمت رواياته إلى كل لغات العالم تقريباً وحصد جوائز عربية وعالمية وعُرف على نطاق عالمي، حصد الكثير من الأعداء لكن كان له أيضاً الكثير الكثير من الأصدقاء.
ناداني “منهولة”، كما أوجد ألقابأً لكل من مرّوا بحياته، أنا متأكدة أن كل من مر في حياة خالد خليفة حصل على اسم مصغر لاسمه أو لقباً، كانت طريقة خالد في كسر اللغة الثقيلة والمسافة مع الأشخاص، فحين يناديك بلقب خاص بك، لا يكسر الجليد فقط، بل هي طريقته ليقول لك “أنسَ أني كاتب مهم ومعروف، وعاملني كإنسان من دون كليشيات المثقفين”، ولذلك كنت أناديه “خلودة”، لكن هذه المرة خلودة لن يرد عليَّ، ولن تنهمر نصائح الكتابة فوق رأسي بمحبة وصدق لا مثيل لهما.
في أول يوم بعد رحيلك، أفتح عينيّ، فتسقط الدموع فوراً كأنهما انتظرتا طوال الليل أن أفتحهما لأصدق أنك رحلت. أفتح حاسوبي المحمول وأكتب عنك، لأستطيع تقبل هذا الرحيل الثقيل، تستمر دموعي في الانهمار على الحاسوب وأستمر في استعادة ذكرياتنا الجميلة…
خلودة قلت لي حين طلبت منك حواراً قبل أشهر أنك لن ترفض لي طلباً، فأنا صديقتك، فإذا طلبت منك اليوم أن تعود، هل يمكن أيضاً ألّا ترفض لي طلباً لأني صديقتك؟
نشرت على درج هنا