قُبلة نجيب محفوظ على جبين حلب

 “رواية سوريا المعاصرة التي تسرد الخوف والتطرّف والاستبداد بوجوههم المألوفة. يقدم لنا خالد خليفة، الفنان المثال، منحوتات روائية بديعة لأشلاء أسرة عربية أدماها العنف السياسي وفتت كرامتها”.. هكذا أوردت لجنة تحكيم “جائزة نجيب محفوظ” في حيثيات فوز الروائي السوري خالد خليفة، الجائزة التي يمنحها قسم النشر في الجامعة الأمريكية منذ العام 1996 في 11 كانون الأول/ديسمبر الموافق لعيد ميلاد الأديب “النوبلي”، وتُترجم العمل الفائز إلى الإنكليزية.

الاحتفالية التي أقيمت في القاعة الشرقية بالجامعة الأميركية، مساء أمس، غاب عنها نجمها الفائز. يكتب خليفة على صفحته في “فايسبوك” كلمته: “رغم كل أحزاني وأحزان السوريين روايتي “لا سكاكين في مطابخ هذه المدينة” تتشرف بقلادة جائزة نجيب محفوظ 2013. شرف كبير لي الفوز بجائزة معلّمنا نجيب محفوظ. شكراً للجنة التحكيم والجامعة الأميركية في القاهرة، شكراً لكل أصدقائي المصريين على محبتهم الغامرة، خصوصاً صديقي العزيز الصحافي والشاعر سيّد محمود وصديقتي العزيزة وناشرتي فاطمة البودي، محبتكم الغامرة جعلت غيابي أقل قسوة. القاهرة ستعود لأهلها وعشاقها وأنا واحد من هؤلاء العشاق”.

في حديث إلى “المدن”، قال خليفة بعد كثرة التساؤلات حول عدم قدرته على المجيء وهل هو “مُنع” أم أنه إجراء تعسّفي من الحكومة المصرية، قال: “تأخرت الفيزا المصرية إلى أن وصلتني اليوم، منعتني البيروقراطية العربية من التواجد مع أصدقائي”، وعبّر عن سعادته بالفوز بجائزة تحمل اسم “معلّم كبير”، لها خصوصيتها على حدّ تعبيره.

لعل السنوات الخمس الأخيرة هي الأزهى فنياً في مسيرة خالد خليفة، بعد وصوله إلى القائمة القصيرة لجائزة “البوكر” العربية عن روايته “مديح الكراهية” 2006، ثم اختيارها ضمن قائمة من قوائم “the muse list” كواحدة من أكثر 100 رواية مُلهمة، جنباً إلى جنب مع ثلاثية نجيب محفوظ، و”باب الشمس” للكاتب اللبناني إلياس خوري، ولا “أحد ينام في الإسكندرية” للكاتب المصري إبراهيم عبد المجيد. اليوم تحصد روايته “لا سكاكين في مطابخ هذه المدينة” أولى جوائزها..

ثلاثة أجيال من التراجيديا على خلفية حكم حزب “البعث”، يقدّمها خليفة في روايته، في مدينته الأثيرة حلب، حيث التشوّهات السياسية مع ضراوة التغيرات في البنية الاجتماعية. أسرة خليفة الحلبية كان من الممكن أن تكون سيرتها عابرة لولا الألم الكامن في شخصياتها، النظام ليس دموياً في إبادته للآلاف فحسب، بل في تسميم الأرواح بكل هذا الحذر..

يلتقط خليفة حلب ويختصرها في بيت واحد، ويلتقط معها عنف الاستلاب؛ العنف المجاني الذي لم يتوان نظام الأسد عن تقديمه على مدار عقود ثلاثة.. شخصيات الرواية تفقد إنسانيتها مع التفاصيل اليومية، تحولاتها ليست درامية أو حادة بل هي في عجينة اليوم الملتبس: “لم تستطع رؤية القسوة التي تحدّث عنها أبي مراراً قبل مغادرته مع إيلينا الأميركية، إلاّ حين أصبحت امرأة مهجورة تعيش مع أولادها حياة موازية مع الحزب الذي صادر ما تبقى من حريات، أوقف تراخيص الصحف ومنع صدورها، عطّل البرلمان وفرض دستوراً جديداً يمنح الرئيس المُفدّى صلاحيات مُطلقة، الذي قام فوراً بعد انقلابه باعتقال رفاقه ورئيس الجمهورية نور الدين الأتاسي ليموتوا في السجون بعد سنوات طويلة، احتفظ الحزب بحق قيادة البلاد التي بدأت تتكيّف مع قانون الطوارئ والمحاكم الاستثنائية، الرئيس.. الذي استأثر لنفسه بكل المناصب الحساسة، من رئاسة الجمهورية إلى قيادة الحزب الحاكم وقيادة الجيش، وحق تعيين قضاة المحكمة الدستورية وتسمية رئيس الحكومة وحل البرلمان..”.

عنوان الرواية الآتي من سؤال ساخر مرير، معبّر عن شعرية وجع مكتوم، لم يتحوّل إلى صراخ ميلودرامي: “لم تسمعه وهو يرجوها البقاء بعيداً عن الحارة التي أصبحت في الآونة الأخيرة حديث الصحف المحلية لكثرة الجرائم، آخرها خبر نشر في صفحة داخلية عن رجل أحرق زوجته وأطفاله الأربعة ثمّ انتحر بسكين المطبخ، صارخاً في جيرانه الذين يراقبون ببرود: أنّ الموت حرقاً أكثر شرفاً من انتظار الموت جوعاً، سائلاً بحرقة: ألا توجد سكاكين في مطابخ هذه المدينة؟”.

أحزان خالد خليفة المبثوثة في روايته، وفي كلمته بمناسبة الجائزة لم تمنعه من الفرح، وكأن الجائزة جاءت قُبلة من نجيب محفوظ، في يوم ميلاده، على جبين حلب.

نشرت على المدن هنا

المصدر
المدن
زر الذهاب إلى الأعلى