الفقد لص محترف يقترب منك متسللا على رؤوس أصابعه ينسيكَ وجوده، ويغافلك ويختار الوقت الذي تطمئن إلى أنك رتبت حياتك على نعمة حضور من تحب، حتى يصبح وجودهم عاديا مألوفا لا يثير دهشة، ولا يوقد حنينا. هناك فقط يسلبك بخفة موجعة حبيبا أو صديقا أو عزيزا، ويوقظك من حلم جميل، لا على الواقع ويا ليته كذلك فقط، بل على كابوس يترك دمعة في العين ومرارة في اللسان وألما لا يطاق في القلب. ذلك ما نستشعره لحظة الغياب، ولا يمكننا للأسف تجنب الشرب من كأسه المرة. وذلك ما نثر ملح الأوجاع فوق جراح روحي، حين فاجأتني وفاة الصديق الكاتب هاني نقشبندي، وكان قبل ليلة واحدة من غيابه يحادثني على الواتساب، ولم يمهلني القدر لأشفى من لوعة غياب هاني حتى علمتُ أن خالد خليفة رحمه الله قد مات. وكنت أعتقد أن له من اسمه نصيبا يضمن له الخلود، فيبقي بيننا طويلا، وكانت الظروف تؤجل لقاءنا رغم أسفاره الكثيرة، ومن ضمنها زيارة الإمارات، وكنت أفكر في استضافته مرة جديدة في أحد برامجي فلقاؤنا التلفزيوني اليتيم لم يرو الغليل. وكنا نخطط مع أصدقاء له حميمين – أو نترك الأقدار تخطط لنا – لنلتقي في سوريا بلده وحبيبته، أو في بيروت أو القاهرة لا فرق. لكن هذه الأمنيات المعلقة أجهضتها ثلاث كلمات لا غير «رحل خالد خليفة».
أعاد لي فقد خالد حين سمعت خبر وفاته ذكرى فقد أبي، فقد كان عندي في اليوم الذي رحل فيه خالد خليفة لقاء تلفزيوني في قناة عربية، وغالبت وجعي وذهبت بفكر مشتت وقلب متألم، وكذلك كان الوضع يوم وفاة والدي فقد كان عندي على الهواء أيضا حوار يومها لبرنامجي مع وزير الثقافة اليمني، وأجريت حواري بفكر مشتت وقلب متألم كذلك، وبعد أن أنهيت واجبي هناك فقط فاضت عيناي أنهارا، وتفجر قلبي وجعا، وتقبّلت العزاء بوفاة والدي.
عرفت خالد خليفة سنة 2001 كنت أعدّ وأقدم برنامج «وجوه» فزرت صديقي هيثم حقي المخرج المبدع وزوجته صديقتي الشاعرة هالا محمد لإجراء لقاء معهما وفي مزرعتهما التقيت بخالد خليفة، وكان هيثم وخالد قد قدما مع بعض، واحدا من أجمل المسلسلات السورية التي تناولت البيئة الحلبية قبل ذلك بسنة أعني «سيرة آل الجلالي». كما كان خالد دائم الحضور في جلسات هيثم وهالا وسهراتهم حيث تتغير الوجوه والضيوف وهو الثابت الذي لا يتبدل. وينبغي أن أذكر أني مدينة لضيوفي الفنانين السوريين فقد كانوا دوما رافعة برامجي بنجوميتهم، يلبون دعوتي دون تمنع ولا شروط.
عرفت خالد وكان يومها في نجوميته الدرامية، حيث كتب سيناريو مسلسل «قوس قزح» من إخراج هيثم حقي أيضا، وبما أن أول من أتواصل معهم حين وصولي إلى دمشق كانا هيثم وهلا فبالضرورة ألتقي بخالد خليفة الذي كانت تحرص هالا على تقديمه للجميع، واصفة إياه بمجنون الكتابة الذي يحمل همّ سوريا، ورأيت فيه يومها المبدع الحقيقي المقبل على الحياة بروح حرة يعب منها بإفراط في الأكل والشرب، مشبها في أعوامه الأخيرة شكل همنغواي كما وصفه خليل صويلح بشَعره الأشيب ولحيته الكثة ووجهه المدور، ومتقمصا روح زوربا البوهيمية التي لا ترتوي من الحياة.
لم أستغرب حين اكتست وسائل التواصل الاجتماعي، خاصة فيسبوك بالسواد لرحيل خالد خليفة، فرحيله فاجأ الكثير، بل حتى من كانوا على خلاف معه وهم قلة أبّنوه وحزنوا لفقده، فروح الطفل التي تسكن جوانحه تمحو كل خلاف أو اختلاف بينه وبين الآخرين.
ومع هذه الحياة التي تبدو فوضوية للناظر إليها من بعد، فقد كانت مكرسة للكتابة، فمنجزه الإبداعي غير قليل بدأه كاتبَ سيناريو، إذا غضضنا النظر عن روايته الأولى «حارس الخديعة» سنة 1993، إذ أنجز خمسة مسلسلات، ثم تألق روائيا في رائعته «مديح الكراهية» التي تناولت أحداث حماه الأليمة سنة 1982، ولم يكن مستغربا أن تُمنع في سوريا بلده، ويتعرض خالد إثرها لمضايقات بلغت أوجها يوم اعتُدي عليه جسديا، والمؤلم أن خالد رغم تنديده بالشمولية وقمع الحريات والاستبداد كان يعيش بين كفي كماشة: مضايقة نظام بلده له، ومطالبة المعارضة أن يتخذ مواقف أكثر جذرية، متناسين أنه فضل البقاء في سوريا متحملا لأجل ذلك أخطارا كبيرة قد تصل إلى تصفيته، لكن الموت كان أسرع فاختطفه وهو لم يبلغ الستين.
لم أستغرب حين اكتست وسائل التواصل الاجتماعي، خاصة فيسبوك بالسواد لرحيل خالد خليفة، فرحيله فاجأ الكثير، بل حتى من كانوا على خلاف معه وهم قلة أبّنوه وحزنوا لفقده، فروح الطفل التي تسكن جوانحه تمحو كل خلاف أو اختلاف بينه وبين الآخرين. وكثيرون ذكروا أنهم كانوا على موعد معه في المكان الفلاني أو التاريخ العلاني، فقد كان يعيش حيوات في حياة واحدة، كتابةً وورشات وإقامات إبداعية ومقالات وكأنه استشعر عمره القصير فأنجز الكثير.
استضفته في برنامجي «نلتقي مع بروين» ورغم معرفتي السابقة والوطيدة به لاحظت أنه كان خجولا، مرتبكا قليلا، لكنه كان واضحا في التعبير عن أفكاره ممتلئا بمعرفته. وبعكس بعض من استضفتهم ممن يتنفسون نرجسية كان متواضعا شديد التواضع تغيب عن حديثه مفردة «الأنا» وما يدور في فلكها. مكتفٍ بذاته ليس نسخة مقلدة عن أيٍّ كان، قد يكون تأثر بكثيرين لكنه صهر تأثره بهم في بوتقة واحدة هي خالد خليفة. ولأنه يعرف قيمة نفسه تماما لم يكن يطلب لا لقاء تلفزيونيا ولا مقابلة صحافية، كما يفعل حتى من يراهم القارئ نجوما كبارا. إذ كان يترك موهبته تعلن عن نفسها فهي ليست بحاجة إلى واسطة أو استخدام نفوذ لتلمع، بل أذهب إلى القول إنه في أحيان كثيرة ظلم موهبته بعدم التسويق لها والإعلان عنها، ولعله كان يستشعر انطوائيته التي كان يغطيها بالصخب والتنقل ومخالطة كل الأطياف حين كتب «أنا شخص أجبن من أن أغادر بيتي وأكثر هشاشة، فكلما أخرج من البيت أنظر لأشيائه خلسة، وكأنها النظرة الأخيرة» لذلك استفرد به الموت وحده في بيته جالسا على أريكته وكأنهما كانا على موعد، ولعل خالد عرض على الموت التمهل قليلا وشرب فنجان قهوة مسائية مع بعض.
حمل خالد مدينته حلب في كتاباته وسيناريوهاته ومقالاته وأخيرا في لوحاته، فقد سكن دمشق لثلاثة عقود، لكن حلب سكنته إلى الأبد، وكأنه كان يخشى أن يلاقي مصير عبد اللطيف السالم البطل الميت في روايته «الموت عمل شاق» فرسم سيناريو في ما لو أراد هو أن يدفن في قريته التي ولد فيها، خاصة أن الموت عابثه من قبل في نوبته القلبية الأولى التي نجا منها. لذلك اعتبر نفسه ولد من جديد وكرس وقته لمنجزه الإبداعي، ولم يركن إلى النجاحات التي حققها من سيناريوهات مسلسلات ناجحة وورشات كتابية ملهمة وروايات حصدت جوائز وترجمت إلى لغات عالمية عدة، بل ضاقت به موهبة الرسم بالكلمات فالتفت إلى الرسم بالألوان، وبعكس ما كان يَفترض المقرّبون منه من أنّها نزوة وتزول، فقد كان جادا في مشروعه وأنجز قرابة الخمسين لوحة وبرمج لها معرضا فنيا غير أن الموت المفاجئ حرمنا من خالد خليفة الرسام لتبقى الرواية أثره الأبرز والأكمل فنيا.
منذ أن أجريت حواري التلفزيوني مع خالد لم ألتقه، معتقدة أن لقاءنا متيسّر ومتاح، أكتفي أحيانا بتعليق في صفحته فيسبوكية، ويكتفي هو بتحية مع صديقنا القريب الصحافي سيد محمود، تاركين للأقدار تحديد موعدنا المؤجل، وغافلين أن الغياب يتربص بنا ينتظر الفرصة السانحة ليختطف من نعتقد أن حضوره بإبداعه وصخبه وضحكته الطفولية وإقباله على الحياة عصي على الموت، لذلك لم أجد ما أعزي به نفسي في رحيلك سوى أن أقول لك – وسكاكين الفقد في مطبخ القلب – «سامحني!».
نشرت على القدس العربي هنا