حاول الكتّاب السوريون إعادة بناء التاريخ السوري الحديث “روائياً” من خلال أعمال اتكأت على التغيُّرات في خريطة المنطقة مع انهيار الإمبراطورية العثمانية ووفاة “الرجل المريض”، وبَدْءِ الاستعمار الغربي المباشر لمنطقتنا، وما استتبع ذلك من نشوء العلَقة الصهيونية، مروراً باحتلال فلسطين، والانقلابات العسكرية، والتغيّرات الاجتماعية التي طالت المدن والأرياف، وما رافقها من حركات وثورات وانتفاضات شعبية. وتحضرنا في هذا المقام أعمال عبد السلام العجيلي، وفارس زرزور، وحنا مينة، وفواز حداد، وناديا خوست، والأخوين هلال، وهاني الراهب، وعبد النبي حجازي، وممدوح عزام، ونبيل سليمان، وخيري الذهبي، ونهاد سيريس، وفيصل خرتش، وغيرهم.
لكن الأعمال الروائيّة السوريّة، كما الأعمال الدراميّة وحتّى كتب التاريخ إلا فيما ندر، تتوقف عند استلام الرئيس السابق حافظ الأسد للحكم في سوريا في تشرين الأول/ أكتوبر عام 1970، بل إنّ بعضها يقف أبكر عند حدود شباط/ فبراير 1966، عندما انقلبت الثلّة العسكرية بقيادة صلاح جديد وحافظ الأسد على باقي التنظيم القومي داخل الحزب.
وفي هذا السياق، تصمت الأعمال الروائية عن أحداث الثمانينات في سوريا، اللّهُمّ إلا ما اتصل بالجانب الإنساني والاجتماعي، كالكتب التي روى فيها أصحابها مذكراتهم في سجون النظام، أو عبر مجموعات قصصية كمجموعات إبراهيم صموئيل، وجميل حتمل، أو روائية، كرواية “القوقعة” لمصطفى خليفة.
إلا أن هذا المحظور بدأ بالتلاشي لا في فترة الأزمة السورية الراهنة فحسب، بل في وقت سابق عليها، من خلال أعمال منهل السراج، وخالد خليفة.
فإن تكن السراج قد كتبت أحداث مدينة حماة ومأساتها في الثمانينات عبر رواياتها: “كما ينبغي لنهر”، و”جورة حوا”، و”على صدري”، وأخيراً روايتها “عصيّ الدم”، فإنّ خالد خليفة كتب معاناة حلب إبّان أحداث 1980 في روايته “مديح الكراهية”، وروايته الأخيرة “لا سكاكين في مطابخ هذه المدينة”.
تبدأ الرواية الجديدة، التي وصلت إلى القائمة القصيرة لجائزة “بوكر” للرواية العربية 2014، من عدم تصديق السوريين لوفاة حافظ الأسد في حزيران/ يونيو عام 2000. إذ إنّ كثيرين منهم لم يعرفوا رئيساً سواه، بسلطته المديدة التي قاربت حدود الألوهيّة في عيونهم، أو كادت.
وتسرد الرواية مآسي الثمانينات عبر سيرة عائلة تتمسك الأم فيها بتقاليد المدينة، فيما تنضوي الابنة البكر (سوسن) تحت لواء البعث، وتشارك في دورة “مظليّة”. وهي دورات عسكرية كان الحزب ينظمها لبعض منتسبيه من الشباب، وبدأت تحت إشراف قائد سرايا الدفاع آنذاك رفعت الأسد، شقيق الرئيس الراحل. وتمتع كلّ مَن خاض تلك التدريبات بمزايا كبيرة، منها القدرة على دخول أي فرع من فروع الجامعة بغض النظر عن مجموع علامات “المظلي” أو “المظليّة” في الثانوية العامة!
وتبدأ “سوسن” بكتابة التقاريرـ الأمنية ـ عن زميلاتها، فيما الأخ الصغير (رشيد) يتحوّل من موسيقي إلى مجاهد في العراق. ويعيش الابن الثاني حياة عادية، ليروي قصة المدينة التي استبيحت بخوف لم يتوقف، وباتت مدينة مُعاقبة تئنّ تحت رغبات رجال الاستخبارات والمسؤولين الفاسدين، ما يشعر الراوي بعار لا حدود له.
تحكي “لا سكاكين في مطابخ هذه المدينة”، قصة تحوُّل ثاني أكبر مدينة في سوريا بعد دمشق، من حلب المزدهرة المترفة، إلى حلب الهامشية، القبيحة، والفاسدة، بأهلها الذين يمشون “مُطأطئي الرؤوس”.
وابتداءً من العنوان، يريد خليفة تجريد المدينة من أهم أداة فيها، وهي “سكاكين المطابخ”، سكاكينٌ لا بدّ منها لحياة الحلبيين التي تقوم بشكل أساسي على “ماذا نطبخ اليوم؟”، و”ماذا نأكل غداً؟”، وعلى “المونة”، والتفاخر بجودة الطبخ، في إشارة إلى “سيخ المعاش” الذي كان يستعمله قصّابوها. وأخيراً، ربما تُستعمل هذه السكاكين أيضاً كملجأ أخير للدفاع عن الشرف.
وعلى ذكر الشرف، يروي الفصل الثاني المعنون بـ”عنق ملوكي وحذاء أحمر”، حياة الموسيقي “نزار” المثلية في حلب وبيروت والتناقض بين هذه الظاهرة والحياة المحافظة للعائلات الحلبية.
على أنّ هذا التناقض لم يكن الوحيد الذي عاشته المدينة. فأكثر من 90% من السوريين عاشوا حياة موازية مع حزب النظام الذي قسم بطشه البلد إلى ضفتين، على إحداها مرتزقة لا يعرفون شيئاً عن الضفة الأخرى، حيث تتناسل الحياة، في حين يراقب كلّ امرئ “الخوف الذي ينمو في داخله” مع مرور الأيام، ويضطره، في النهاية، إلى التماهي مع صور “الرئيس”، مقنعاً نفسه بأنّه يحبه.
كما يروي خليفة جزءاً من سيرة تحوّل مدينة الفن والطرب الأصيل، والموشحات، وقصائد التصوّف، إلى التطرف الديني، حيث بات بعض شبانها يحلم بدولة “اليقين” الإسلامية التي يستبدّ بالسلطة فيها “المقرّبون من الله” الذي يرونه “مسلحاً” يحثّهم على “احتكار الحياة والآخرة”. أمّا القلّة الباقية فتلجأ إلى تنظيمات يسارية متطرفة.
هنا يقع خليفة في مطبّ ضرورة رصد كل الظواهر الاجتماعية وكأنه يريد كتابة معجم “خير الدين الأسدي” عن حلب، ولكن روائياً.
يذكّرنا عنوان الفصل الأول: “حقول الخس”، بما كان يردّده بعض القائلين بـ”الحل العسكري”، وبأنّهم يريدون زرع درعا أو حمص بطاطا أو خس، وبما تعيشه حلب اليوم من مأساة تذكّرها بـ”طعم العار”، وبما حاولَتْ كثيراً نسيانه أو تجاوزه، ولم تستطع.
نشرت على موقع العربي الجديد هنا