الجائزة العالمية للرواية العربية “البوكر”، الأكثر جدلا في الحياة الثقافية العربية، أعلنت يوم الأحد عن فوز رواية “تغريبة القافر” للروائي العماني زهران القاسمي بجائزتها لهذه الدورة. أهنئ من كل قلبي الروائي زهران القاسمي على هذا الفوز الكبير، وأتمنى ألا تصيبه “لعنة البوكر” كما أسميها، والتي لا يتسع المجال هنا لشرحها.
كل الكتاب يعتقدون بأنهم جديرون بالفوز بأرفع الجوائز، وهذا شعور طبيعي في مهنة يعتمد الفوز فيها على تقييم لجان التحكيم وذائقتهم ومعرفتهم وعدالتهم في المقام الأول، والوهم الذي يعيشه الكاتب المنتج في تقييم ذاته ونصه في المقام الثاني، لذلك يكتسب وقت إعلان الجوائز أهمية خاصة، الإحباط الذي يرافقها عموما أكبر وأعمق بكثير من الإحساس بالنجاح الذي يراود شعور الرابحين في القوائم القصيرة على الأقل. أعرف كتابا حولهم انتظار ربح الجوائز إلى معتوهين، مشدودي الأعصاب، يعملون بما يظنونه جذابا وينال رضا لجان التحكيم أو القائمين على تسيير أمر هذه الجوائز، تتراجع كتابتهم، والأثمان التي من الممكن أن يكونوا قد دفعوها ذهبت سدى، وكتاب آخرون يكثفون العمل ويطبعون حسب روزنامة وتواريخ التقدم إلى الجوائز.
أعرف كتابا حولهم انتظار ربح الجوائز إلى معتوهين، مشدودي الأعصاب، يعملون بما يظنونه جذابا وينال رضا لجان التحكيم أو القائمين على تسيير أمر هذه الجوائز
في الثقافة العربية لم تصمد الجوائز العربية طويلا، رغم أهميتها في الماضي، نتذكر بعضها كجائزة مجلة الآداب التي ربحها ذات يوم الشاعر الأردني تيسير سبول والروائي السوري الكبير هاني الراهب عن روايته “المهزومون” عام 1961، وكان عمره 24 عاما، وكان رحمه الله يردد أمامي بأن هذه الجائزة حولته إلى نجم، يرغب الكتاب العرب من المحيط إلى الخليج بالتعرف إلى ذلك الكاتب الشاب المعجزة.
لو عدنا إلى ستينات وسبعينات القرن الماضي لوجدنا بأن أغلب الجوائز كانت قادمة من مصر وبيروت، لكن هذه الجوائز رغم عمرها القصر وتمويلها الضعيف (2000 جنيه إسترليني لجائزة مجلة الناقد مثلا)، كانت ذات تأثير كبير، تحولت إلى مجهول واندثرت آثارها، لا شيء في الأرشيف عن تاريخ جائزة مجلة شعر مثلا التي فاز بها شوقي أبو شقرا عن ديوانه “ماء إلى حصان العائلة” وأدونيس عن ديوانه “أغاني مهيار الدمشقي” وبدر شاكر السياب عن “أنشودة المطر” ، ليس لدينا معلومات عن منافسيهم في القائمة القصيرة، ولا عن كيفية اختيار هؤلاء الشعراء وإهمال الخاسرين الذين من الممكن أن يكون بينهم شعراء مهمون أيضا.
من ضمن الجوائز الأقرب إلى جيلنا تأتي جائزة الناقد للرواية التي كانت للنصوص غير المنشورة، التي فاز فيها الروائي اللبناني المجتهد ربيع جابر عن روايته الأولى “سيد العتمة” والروائي المغربي بنسالم حميش عن روايته “مجنون الحكم” والروائي العراقي سليم مطر عن روايته “امرأة القارورة” والروائية هدى بركات عن روايتها “حجر الضحك”. وكانت ذات تأثير كبير رغم عمرها القصير ونقودها القليلة.
ما دمنا في سياق الحديث عن جائزة الناقد، أذكر بأنني شاركت في دورتها الأولى عام 1990 بروايتي الأولى التي نسيت اسمها، خسرت الرواية التي أعدت قراءتها بعد إعلان النتائج، وحمدت ربي أنها لم تربح حتى لو عن طريق الخطأ، بعد قراءة متمعنة وهادئة أحرقت مخطوط هذه الرواية لاعتقادي بأنها تستعير أصوات الآخرين، لست نادما وأعتبر هذا الفعل واحدا من الأفعال الشجاعة والمهمة في حياتي.
أخلصت الجوائز لمفهوم العصبة والعمل السري الذي يجري به تسيير كل شؤون حياتنا. نحن لم نعتد وليس من حقنا السؤال مثلا عن تغيير منهاج تعليم مادة التاريخ لطلاب الثانوية، لا أحد يسألنا، في كل العملية التربوية لا أهمية لرأينا.
ما دمنا في حديث الجوائز، وللأمانة أعترف بأني كاتب يحب الجوائز، لكني لا أسعى إليها.
تعرضت لتجارب لا أحسد عليها خلال السنوات العشرين الماضية، ذات يوم سأكتبها بالتأكيد كاملة.
البوكر العربية ومنذ تأسيسها كانت الأكثر إثارة للجدل، إلا أنها في الوقت نفسه تعمل وفق المبدأ نفسه، ما يحدث في جلسات ونقاشات لجان تحكيمها شيء يخص الجائزة، ولا يجوز الخوض فيه، رغم أنه في كواليس المهتمين خاصة من الصحافيين العارفين، بعد إعلان الجائزة يجري تسريب كل تفاصيل لجان التحكيم وأسرارها، والسيء في الأمر تحوّل هذه التسريبات الشفهية إلى حقائق تاريخية يجري تداولها مؤقتا وتذهب إلى النسيان بعد وقت قصير كما حصل مع جوائز الستينات والسبعينات.
هل تفعلها البوكر وتعلن بأنها ستنشر محاضر التحكيم، وتشجع باقي الجوائز على فعل ذلك، وتكون هي الرائدة والسباقة في نقل الجائزة إلى مستوى أهم مما هي عليه الآن؟
طبعا لدينا عدد كبير من الجوائز ولسنا بصدد تعدادها، نادرا ما نجد معلومات وتفاصيل عن نقاشات لجان التحكيم وحواراتهم. كما يحدث في الكثير من الجوائز العالمية، كما أسلفنا لأن الثقافة العربية تعتبر الأمر شخصيا، أسراره يجب أن تبقى طي الكتمان، ما عدا جائزة نجيب محفوظ التي أسستها الجامعة الأميركية في القاهرة لتكريم كاتبنا الكبير، تعلل الفوز بملخصات طويلة باللغتين الإنكليزية والعربية، حين لم يكن لديها قوائم طويلة وقصيرة، لكنها الآن انضمت إلى رفيقاتها من الجوائز العربية، ولا أعرف إن كانت ستعمل وفق المعايير الأميركية في كشف نقاشات لجان التحكيم، أم وفق المعايير العربية التي تقدس السرية، وهي مفضوحة على كل لسان.
إذا ركزنا حديثنا عن الجائزة العالمية للرواية العربية “البوكر” نجد بأنها قد تكون الأكثر إثارة واستقطابا للاهتمام، فالخاسرون لديهم دوما حكايات طريفة، محزنة، وأحيانا مضحكة، لكنها جزء من تاريخ الجائزة.
البوكر ومنذ دورتها الأولى تثير الجدل، ولن ينتهي الاتهام لها إلا بخضوعها للمعايير الدولية التي تقول إن ما يحصل خلف كواليس لجان تحكيم جائزة البوكر شأن يخص الثقافة العربية برمتها، ويجب نشر محاضر جلسات لجان التحكيم كاملة بعد عدد محدود من السنين.
لديّ اعتقاد حقيقي بأن المؤسسة المنظمة والداعمة للجائزة لا تتدخل لا من قريب ولا من بعيد بنقاشات لجان التحكيم، لكن من يختار لجان التحكيم يوجه الدفة نحو فوز مناطقي أو أيديولوجي، وهذه مسؤولية مجلس الأمناء المعلنة أسماؤهم كما هو معروف بكل شفافية.
لكن العمل على المزيد من الشفافية وكشف محاضر جلسات التحكيم بعد عدد من السنوات، يمنعان حتى لجان التحكيم من الاحتكام لمعايير خارج الكتابة، وسيصبح ما يحدث الآن جزءا مهما من تاريخ الكتابة العربية. لا أُخفي شغفي الشخصي بقراءة محاضر لجان التحكيم في الدورة الأولى التي كانت الأكثر حرارة حتى الآن التي فاز فيها عن استحقاق الروائي الكبير بهاء طاهر عن روايته “واحة الغروب”، وكخاسر أود أن أعرف كيف نظر المحكمون إلى عملي “مديح الكراهية” وإلى أعمال رفاقي في القائمة القصيرة، كما لديّ شغف لأعرف ماذا حدث في الدورات اللاحقة التي جرى فيها تجاهل كتبي الأخرى.
هل تفعلها البوكر وتعلن بأنها ستنشر محاضر التحكيم، وتشجع باقي الجوائز على فعل ذلك، وتكون هي الرائدة والسباقة في نقل الجائزة إلى مستوى أهم مما هي عليه الآن؟
نشرت على المجلة هنا