لعل الموالين للنظام السوري، في شماتتهم بوفاة الكاتب والسيناريست خالد خليفة ليل السبت، يعبّرون عما يتجاوز الحقد الأسود تجاه كل من رفع صوته ضد نظام الأسد منذ العام 2011، وهو ما ظهر بدى وفاة شخصيات شهيرة أخرى سابقاً كالممثلة مي سكاف وزميلتها فدوى سليمان… فيشعر قارئ منشوراتهم بأنهم يقدمون انطباعاً عن معنى الثقافة، والكتابة تحديداً، في بلاد تعيش تحت حكم شمولي منذ عقود.
ووصف الموالون، بما في ذلك إعلاميون بارزون، في عشرات المنشورات، خليفة (59 عاماً) الذي توفي إثر نوبة قلبية في العاصمة دمشق، بالخائن والعميل والصهيوني، كما هاجموا من حزن عليه في مواقع التواصل الاجتماعي، بالأوصاف نفسها، خصوصاً من بين الممثلين السوريين الذين شاركوا في مسلسلات درامية كتبها خليفة. وذلك فيما بدت لافتات السويداء التي رفعت تحية له، دليلاً، في العقل الموالي، على كون الاحتجاجات المطالبة بالتغيير السياسي في المحافظة الجنوبية “مخططاً صهيونياً بامتياز”، بموازاة اتهام خليفة بأنه “كاتب رواية السويداء” بمعنى أنه شارك في “رسم المخططات المعادية للوطن” عبر صياغة الشعارات التي يرفعها المتظاهرون أو التخطيط للفعاليات في الاحتجاجات! وهو طبعاً خيال محض.
وتنطلق الشماتة من مشاركة خليفة قبل سنوات في برنامج الكتابة الإبداعية بجامعة “أيوا”، ما أسفر عن كتابته رواية “لا سكاكين في مطابخ هذه المدينة”، ويتم ضخ معلومات مضللة في هذا الإطار بالقول أن وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية “سي آي إيه” هي التي تدير البرنامج وتتحكم فيه من أجل “تدجين” الأصوات الروائية حول العالم وضخ “القيم الأميركية” (التي لا يُعرف ما هي ولا لماذا تعتبر سيئة!) عبر الأدب، والهجوم على الثقافات المحلية، فيما يوصف الكتاب المستقلون الذين يصقلون مهاراتهم في تلك البرامج ويحصلون على منح مالية تمكنهم من التفرغ للكتابة، بأنهم عملاء وخونة.
والحال أن الورشة الإبداعية في جامعة “أيوا” بدأت عملها في ثلاثينيات القرن الماضي، وكانت ذات تأثير واضح في الكتابة والأدب في الولايات المتحدة، بحسب وسائل إعلام أميركية، لطالما اتُّهمت من قبل مروجي نظريات المؤامرة في “تويتر” ومن قبل المنظرين للدعاية الروسية مثلاً، بأنها تمتلك “علاقات مع وكالة الاستخبارات الأميركية” لدرجة وصفها بأنها واجهة ثقافية لهذه الاستخبارات. لكن ذلك ليس دقيقاً لأن الثقافة الأميركية عموماً بعد الحرب الباردة كانت تضخ مفاهيم الحريات والديموقراطية وتشجع عليها حول العالم بطرق مختلفة في فترة العداء للشيوعية. والمصادر التي يروجها موالو النظام السوري اليوم، مجتزأة، وتتحدث عن حقبة الستينيات تحديداً التي شهدت تبرعات مالية من سياسيين محافظين للبرنامج، واستُعيدت هذه المصادر لاتهام خليفة بالتبعية للـ”سي آي إيه” اليوم!
هذا النوع من التضليل والتخوين، سلوك متكرر من قبل النظام والموالين له على حد سواء منذ عقود، بحق كل من يعبّر عن نفسه خارج الحدود التي ترسمها السلطة، بشكل يذكر مجدداً بأن وظيفة الثقافة والفن في الدول الشمولية واحدة فقط: التعبئة الشمولية بغرض التحكم في حياة الأفراد وصياغة أحلامهم وتفاصيل أيامهم المتشابهة من قبل السلطة التي تظن أنها خالدة وأبدية. والخروج عن ذلك السيستم يعني الخيانة ليس فقط لأن مَن يتجرأ على ذلك يجاهر بالعداء للسلطة، بل لأنه أيضاً يقدم للآخرين ممن قد يصادفون عمله الفكري، إمكانية رؤية مختلفة.
وبالطبع فإن الأنظمة الشمولية مثل النظام السوري، تميل إلى تكريس الجمود كأسلوب حياة لشعوبها، لأن ذلك الجمود والملل اليومي، حتى على صعيد الحياة الشخصية، يتحول إلى يأس من إمكانية التغيير أو تحدي السلطة. وعبر سياسات المنع والحجب والقمع التي تطاول الكتب والأفلام والتلفزيون وحتى موسيقى البوب، تتم تصفية الأفكار وخنقها وتنميط حياة الأفراد وحصرها في اتجاهات ترضى عنها السلطة بوصفها قيادة حكيمة تقود قطيع الجهلة إلى بر الأمان. ويصبح الأفراد القلائل ممن يقدمون سردية بديلة، أو يعبرون عن أنفسهم من دون أدلجة، “خطراً أمنياً”، وهو ما يمكن تلمسه في ردود الأفعال من قبل الموالين للنظام إثر وفاة خليفة التي تجلب السعادة لأنه “ما طوّل كتير”!
ومن منظور العقل الموالي المليء بشتى أنواع نظريات المؤامرة، والذي يفكر بشكل أحادي يتصور بموجبه أن الكوكب كله يشن معركة ضد رئيسه المفدى وحضارة بلده وتفوقه الأخلاقي والثقافي، من الصادم رؤية منشور يحزن صاحبه على كاتب مستقل.. فيما لا تُذرف االدموع على “شهداء الجيش السوري” ولا يتم استذكار القادة المنسيين كحافظ الأسد والرجال الشجعان كالقائد السابق في الجيش السوري عصام زهر الدين!
بالطبع لا تتحول تلك الانتقادات إلى نقاش حول الثقافة السورية نفسها، خصوصاً أن المعارضين والموالين يشكلون كتلاً منفصلة لا تتحاور في ما بينها باستثناء تبادل الشتائم والاتهامات. وبالتالي يغيب عن المشهد الحديث عن معنى أن يكون المرء مثقفاً في بلد مثل سوريا، من زاويتي مثقفي السلطة والمثقفين المستقلين على حد سواء. وتحضر في المقلب المعارض بعض المبالغات في توصيف خليفة نفسه كـ”ظاهرة أدبية”، وقد يكون ذلك ناتجاً عن نيله اهتماماً إعلامياً عالمياً بسبب تجرؤه على سرديات السلطة خصوصاً ما يخص نكشه للماضي السوري الذي يتم توصيفه دائماً في الدعاية الرسمية بأنه “براق وجميل” قبل أن تخربه الثورة.
هذان النقيضان يلخصان ربما حالة الفن والثقافة في سوريا، ودول شرق أوسطية مشابهة. حيث تأتي القيمة للإنتاج الثقافي من الموقف السياسي والأخلاقي في كثير من الأحيان ومن كافة الأطراف. أدونيس مثلاً بات يُحتفى به في الإعلام الرسمي السوري أكثر من ذي قبل، بسبب موقفه السلبي من الثورة السورية بوصفها “حركة دينية”، فيما تم التقليل من شأنه في المقلب المعارض للسبب نفسه. وبالأسلوب هذا، يُحاكَم الإنتاج الأدبي والفني لآخرين من بينهم خليفة، مع غياب المعايير الفنية والثقافية الأساسية. فيما ترعى السلطة أسماء محددة وتعوّمها وتضخ نتاجها، لا سيما ممن يتبنون الرؤية الرسمية ويزايدون عليها، تحديداً عبر الدراما التلفزيونية.
وبما أن الأوساط الثقافية تعمل عموماً وفق نموذج التمويل، مع عدم تحولها إلى صناعة كما هو الحال في الدول متقدمة فنياً، تبقى دوائر تأثيرها محدودة، كما هي دوائر الاهتمام بالإنتاج الثقافي نفسه الذي يعطي انطباعاً بأنه فن مجتمعي لا فن ذاتي، مع ميل نحو التوثيق والبحث في الأرشيف عن قضايا مثل انتهاكات حقوق الإنسان خلال حقبة الثمانينيات، ما يشكل في حالة سوريا نافذة للكوكب للتعرف على عالم مظلم يغلفه نظام شمولي مثل نظام الأسد في سوريا، بالدعاية الزائفة.
نشرت على المدن هنا