كتبت بديعة زيدان:
“بدت المقبرة لزكريا وحنّا في غاية الروعة، وهما ينظران إليها من نافذة الغرفة، قبور المسيحيين مسقوفة بعناية جانب قبور المسلمين، وقبور المجهولين والغرباء في صف ثالث منتظم، وتركت قبور أخرى مفتوحة لاستقبال أي جثث يجرفها النهر من قرى بعيدة .. منذ ثلاثة أيام يحفر الفلاحون القبور، ويستمعون إلى تعليمات زكريا، الذي لم يفكر في تلك اللحظة سوى في دفن الأموات، كان يردد أن الموتى سرعان ما يتحولون إلى وباء، دفن أكثر من مئة وخمسين جثة، ولم ينجُ من ملمسها البارد ورائحتها التي رافقته إلى الأبد .. لم يكن يعرف أن رائحة الموت تعلق في الثياب، والدفن ليس أمراً أقل مشقة كما تراءى له حين أعطى أوامره للفلاحين بحفر القبور، وأرسل من يستدعي شيخاً وكاهناً لتكتمل المراسم .. حضر الكاهن والشيخ ورفضا الصلاة على الجثث غير المعروفة، أو الضائعة الملامح، قال الشيخ لا يجوز الدفن على الطريقة الإسلامية والصلاة على جثة لشخص قد يكون مسيحياً، وافقه الكاهن مؤكداً أنهم يجب أن يتأكدوا من ديانة الجثة، لكن زكريا تابع دفن الجميع على طريقته، دون اكتراث بصلاتهما مردداً أن الموتى يخسرون صفاتهم الدنيوية، ويتحولون إلى كائنات أخرى لا تعنيهم أمور الجنة”.
في إطار حديثه عن طوفان يبدو متخيلاً، حيث لم يشر إليه أي من المراجع، يبدأ الروائي السوري خالد خليفة روايته عائداً إلى العام 1907، عام الطوفان المفترض، لكن مما سبق اقتباسه من روايته حديثة الصدور “لم يصلّ عليهم أحد”، عن “نوفل” دمغة الناشر “هاشيت أنطوان” في بيروت، يتضح أن خليفة لم يصنع تاريخاً متخيلاً فحسب، أو شخوصاً اكتست من لحم ودم الغابرين ممن سقطوا في حلب بفعل الصراعات والحروب والأوبئة والكوارث الطبيعية والطغيان وغيرها، بل كان وراء كل فقرة، وأحياناً كل جملة أو أقل، إسقاط ما مفتوح التأويل على واقع مرّ، عاشته وتعايشه سوريا منذ قرابة الثماني سنوات، ولعل هذا ما لم يرد الروائي قوله، محيلاً القارئ إلى قرون من المعاناة، وسط حكايات متشابكة وغير متشابكة في آن، فكان “الرجل العنكبوت” الذي يرمي شباكه الرقيقة لتلتف حول الحكايات، وتلملم ما تبقى من أجنحتها الهشة وعظامها الصلبة، هو الذي تسلق جدران الأزمنة والأمكنة بخيال لا محدود، جعله يقفز من زمن إلى آخر كما يقفز “سبايدر مان” من مبنى إلى آخر دون أن يقع، أو تتكسر عظامه، فكانت رواية يطلّ الجهد الكبير المبذول فيها منها، وهذا يحسب لخليفة صاحب “لا سكاكين في مطابخ هذه المدينة”، و”دفاتر القرباط”، و”الموت عمل شق”، وهو العنوان الذي يصلح ليكون مظلة العديد من الأحداث وربما الفصول في روايته “لم يصلّ عليهم بعد”، وإن كان الموت في حالات بعينها لم يكن عملاً شقاً بحد ذاته، بقدر آثاره المرهقة على المحيطين، الذين لم يتخلوا عن الانتصار لعواطفهم الجميلة، فتجاور الحب مع الحرب في صفحات الرواية الممتدة إلى قرابة الثلاثمئة وخمسين صفحة.
وفي حلب التي اشتهرت بتعدديتها عبر التاريخ، وإن لم تخلُ من تشدد عابر للأديان، لم تخرج حكايات الحب العذري وغير العذري عن سكة حلب التي كانت مقطوعة، فالمحبون لطالما صدموا بآراء “رجال الدين” وفئات أخرى من المجتمع ممن عارضوا الزواج المختلط، فكانت حالات الانتحار، والقتل الذي لم يحل دون انتصار العاشقين في بعض الحالات، في رواية تسعى لتكريس انتصار الحب على الكراهية، التي لا تزال تعصف بالمكان المعتق بحكاياتها السرية، في زمن الانكسارات المستمرة.
الصديقان حنا المسيحي وزكريا المسلم، كانا يغيبان بالأسابيع عن قريتهما وزوجتيهما وأبنائهما، بحثاً عن ملذاتهما في عوالم النساء، والخيل، وغيرهما .. وبعد عودة من ذات غياب، يجدان أن الطوفان أتى على كل من وما في “حوش حنا”، فالمسيحي يخسر ابنه وزوجته، بينما تفقد زوجة المسلم الكردية ابنها الذي كانت تحتضن جثمانه، ولا تصدق وفاته، فيما هام الزوج على وجهه، فاقداً السيطرة على سيالاته العصبية وما تصدره من أوامر، حتى تحول في أحد الأديرة من شبه مجنون إلى شخص مبروك يشفي المرضى وغيرهم بلمسة يد.
وترعرع حنا في بيت أحمد البيازيدي والد زكريا، محاسب الولاة العثمانيين، ومدير البنك العثماني في حلب، وهو صديق والد حنا، لذا، وإثر أحداث “ماردين” العام 1876، يذبح كل أفراد عائلة “كريكورس” عقاباً لقتلهم ضابطاً عثمانياً، حاول خطف عمّة حنا في وضح النهار، وهو ما وصف بالمجزرة .. وهنا يكسّر الروائي تلك الهالة التي يحاول مؤرخون وغيرهم من أنصار “الخلافة” إحاطة الحقبة العثمانية أو الاحتلال العثماني للأقطار العربية فيها، ويؤكد أن أفعال الأتراك القدماء لم تخل من فظائع وبشاعات.
ولم تقتصر العلاقة الملتحمة على حنا وزكريا فحسب، بل حضر عازر وسارة من يهود حلب، ووليام، وشمس الصباح خليلة حنا، والذين تعاضدوا على بناء قلعة فيها من الغموض الكثير كما المتاهات، لتبقى عصيّة على الآخرين ورمزاً للتمرد على السلطة بمفهومها الواسع، وللصعلكة أيضاً .. وكان من أبرز دهاليزها غرفة دائرية للمنتحرين لم ينتحر فيها أحد، وأخرى لصك عملة دولة متخيلة، ولكون الصديقين حنا وزكريا من الأثرياء، فقد تمكنا من تحويل هذه القلعة إلى دولة سرّية لهما ولأصدقائهما كانت عصيّة على الاختراق.
وترصد الرواية بعناية تفاصيل لا أدري إن كانت تتراوح ما بين الحقيقي والمتخيل، أو المتخيل والمتخيل، إبان الحرب العالمية الثانية، حيث التحولات على المستويات السياسية والاجتماعية والاقتصادية، وعلى مستوى الشخوص الأساسية والهامشية، فظهر الإسلاميون المتشددون الذين أحرقوا القلعة التي كانت تشكل رمز التحرر لأصحابها، وأجزاء من أحد أديرة القرية، وهو ما جاء كرد فعل من هؤلاء على المزيد من التحرر في المجتمع الحلبي المفترض، وتمثل في بعض حالاته بخلع بعض النساء للحجاب، ومنهن سعاد شقيقة زكريا، التي سعت لتنظيم أول عرض أزياء في حلب، انتهى بحريق التهم المكان المقرر له.
كما تحدث خليفة في رواية عن يهود حلب، عبر شخصية عازار، والتحولات التي طالته وسعاد إثر النكبة أو “إعلان دولة إسرائيل” .. “لم يكن عازار يهودياً متعصباً، كان يعتقد أن حلب مدينة ساحرة لا يمكن لأي شخص ولد وعاش فيها استبدالها بأي مدينة. يوم إعلان دولة إسرائيل قال لسعاد سيعيش اليهود تيهاً آخر وأبدياً، لن تجدي يهودياً واحداً هنا بعد سنوات قليلة، سينتزعونهم من أمكنة طفولتهم حتى لو اضطروا لاستخدام القوة، لن يعدموا الوسيلة، ليرث أبناؤهم عار دم الفلسطينيين إلى الأبد … أصبح عازار يلازم منزله، لا يخرج إلا للضرورة، لا يشارك في نقاشات اليهود الذين كانوا يجتمعون ويختلفون حول إسرائيل، يتبادلون بسرية تامة عروض الوكالة اليهودية لمساعدتهم على الهجرة. انتهى حلم شيخوخته بافتتاح مدرسة مسائية لتعليم العمارة، كان يردد: كل الناس لديهم فائض خيال يجب استثماره في صناعة الجمال”.
وبرزت براعة خالد خليفة بوضوح فيما يتعلق بنسج الشخوص التي كان يصهر سيرتها الذاتية في النص، عبر حكاياتها المجبولة في سيرورة السرد، وكأنه يصنع صينية من القش، لا تشعر عند دخول أي “عود” جديد إليها، بأي نشاز، بل على العكس، كانت هذه الإضافات تزيد العمل رونقاً وتنوعاً، فتعدد الشخوص، برأيي، يثري العمل، ولكن الإكثار منها قد يفضي إلى حالة من تشتت القارئ.
وعلى عكس حالة انصهار الشخوص داخل متن نص الرواية، لم يكن النسيج الروائي الذي يتصبب عرقاً، سلساً، وفيه من الصنعة والتكلف بعض الشيء، ما قد يرهق القارئ .. وهنا قد يرى البعض أن الأمر إيجابي، فالروائي الماهر لا يحيك نصّه الإبداعي على مقاسات قرائه، في حين قد يرى آخرون أن في هذه اللاسلاسة أحياناً ما يثقل على القارئ، لكن خالد خليفة في النهاية قدم رواية يمكن وصفها برواية القلق الإنساني ما بين ثنائية الحب والموت، أو الحب والحرب، وهو القلق الذي يمكن إسقاط ما حدث ويحدث في سوريا اليوم عموماً، وحلب خاصة، على ما حدث وما كان يحدث فيها قبل عقود بل قرون.
إنها رواية متعبة ومزعجة، وهذا يتواءم مع كثرة ما يسيل فيها من دماء، ومع روائح الجثامين التي تفوح من بين أوراقها، في رحلة ترصد أكثر من حالة حب وئدت قبل أن تكبر تحت وطأة السياسة، والدين، والعادات والتقاليد، والمحرّمات السماوية والأرضية، وكأنه الوطن الذي يعاني الذبح على المقاصل ذاتها، حيث غياب التسامح وغياب الانتصار لفكرة أن “الدين لله والوطن للجميع”، أو “والحب للجميع”، باتجاه مزيد من التعصب لم يكن سائداً في حلب “أيام زمان”، أو حلب التي أرادها خالد خليفة، كما لم يغب عنها تماماً، أيضاً… “لعلك تذكر كيف كنّا، أطفالاً، نرسل السفن الورقية. الآن أحرقنا المدينة. يجب أن يكتمل الحريق حتى تعود قواربنا التي انتظرناها أربعين عاماً”.
نشرت على الأيام هنا