كان لافتا في الرحيل المفاجئ والصادم للروائي والسيناريست السوري خالد خليفة، قبل أيام، أنه جمع المختلفين في المواقف السياسية حوله، ذلك أن كلمات الرثاء والحزن عليه فاضت على صفحات التواصل الاجتماعي، ومن جميع من عرف خالد من السوريين والعرب والعالم. حتى أن صحفا كبرى في العالم نعته في صفحاتها الأولى (وحده الإعلام السوري الرسمي تجاهل الخبر تماما، لحسن حظ الراحل). هذا الإجماع اللافت على نعيه، على الأقل الإجماع السوري، لم يكن فقط لأنه أحد أهم الروائيين والكتّاب السوريين حاليا، بل لأنه تمتّع بشخصية فريدة جاذبة، فيها من طاقة على العيش والحياة والفرح ما جعل من فكرة موته مُلغاة تماما، إذ كيف لكل هذه الحياة الضاجّة والحاضرة أن تنهيها خلال ثانية واحدة هي أصغر بكثير من حجم بعوضة تافهة؟ هكذا فجأة وجدنا أنفسنا جميعا، نحن أصدقاء خالد ومعارفه ومحبّيه، أمام مواجهة حقيقة موته المباغت، فكيف لنا أن نصدّق هذا الموت وكيف لنا أن لا نكتب لخالد عن محبّتنا له وعن صدمتنا بما فعله بنا؟
لم يكن حضور خالد خليفة في المشهد الثقافي السوري عاديا، فهو منذ روايته الأولى “دفاتر القرباط” (1993)، سجّل حضورا راسخا في الثقافة السورية، تعزّزت عندما دخل عالم السيناريو، حين كان الإنتاج الدرامي السوري في قمّة صعوده، حيث حظي مسلسل “سيرة آل الجلالي” (إخراج هيثم حقّي عام 2000)، بنجاح هائل عند عرضه. وثبت أقدام خليفة في عالم الكتابة الدرامية، حيث تابع بعدها الكتابة للدراما بالتزامن مع إنتاجه الروائي الذي تبلور تماما مع روايته “مديح الكراهية” عام 2006، ليكرّس بعدها أحد أهم الروائيين السوريين الشباب، وتبدأ مسيرته في الشهرة والانتشار والجوائز والترجمة للغات عديدة.
جعلته كتابتُه الدراما والرواية معا حاضرا بقوة في المشهدين الفني والثقافي السوري (لا يمكن فصل الوسط الفني عن الثقافي في سورية، حيث كانت ما تسمّى شريحة المثقفين تضم العاملين في كل أنواع الفنون والكتابة)، وجعلته صديقا لمعظم صنّاع الدراما السورية ولغالبية الكتاب والصحافيين والمثقّفين السوريين. وفي عام 2011، عندما بدأت الثورة السورية، كان خالد خليفة من أول مناصريها، وفتح بيته لاستقبال الشباب الهاربين من الملاحقات الأمنية إثر مشاركاتهم في المظاهرات. وشارك في كل الاحتجاجات المدنيّة. وعندما خرجنا جميعا من سورية، لسبب أو لآخر، رفض هو الخروج، لكنه احتفظ بقدرته على الحركة داخل سورية وخارجها، متكئا على شهرته كاتبا بات معروفا في كل العالم تقريبا. لم يجعله بقاؤه في سورية يتراجع عن قول الحق، بل ظلّ شجاعا وجريئا في حواراته المتعلقة بالثورة السورية وبالنظام؛ وظل محتفظا بودٍّ هائل لجميع أصدقائه الذين خرجوا من سورية، فلم يشتمهم كما فعل كثر غيره ممن لم يغادروها، ولم يتاجر ببقائه فيها، ولم يحمّل من غادروا مسؤولية ما حدث. ظل خالد محتفظا بمحبّته جميع من خرجوا (معظمهم أصدقاؤه)، مانحا لهم الأعذار والمبرّرات. احتفظ بتواصله معهم في كل مكان في العالم؛ في الوقت نفسه. فرض عليه بقاؤه في سورية الاحتفاظ بصداقاتٍ حتى مع المختلفين سياسيا عنه، وهذه ضريبةٌ يجب دفعها في الخيارات الصعبة، ويجب أن تكون بديهيةً لدى من يملك عقلا موضوعيا في رؤية ما يحدث في سورية.
هذه الظروف التي أحاطت بخالد خليفة، بالإضافة إلى طبيعة سماحته ورحابته وقلبه المحبّ المفتوح للجميع، انتماء سوري يرى في الجميع أبناء وطن واحد، وشجاعة نادرة في قول الحقّ وهو في قلب الخطر، وتاريخ طويل من العلاقات الإنسانية مع معظم المختلفين سياسيا في الداخل والخارج، بالإضافة إلى شخصيّته الدمثة الودودة الشغوفة بالحياة والنهمة للفرح، رغم كل المآسي والكوارث، وروحه الحرّة التي لم تقربها الضغينة يوما، وتواضعه الشديد وبساطته في التعامل مع الجميع، رغم شهرته وثقافته التي لم تكن يوما مدعاة للتشاوف والاستعراض؛ تلك الظروف كلها جمعت كل المختلفين سياسيا حول رحيله، إجماع غير مسبوق في الحالة السورية، ذلك أن لا أحد ممن سبقوه في الرحيل ملك هذه الصفات الاستثنائية: الشجاعة والحبّ والشهرة والتواضع والتسامح. هذه صفاتٌ محض خاصة لا تملكها إلا شخصية نادرة، ليست ملائكية ولا أسطورية حتما، لكن منبع سلوكها بالكامل هو الحبّ فقط.
نشرت على العربي الجديد هنا