مات خالد خليفة جالساً على كرسيه في بيته في دمشق، كأنه أراد أن يسرق لحظة الموت بصمت من دون أن يخبر أحداً. يبدو مثل من ذهب إلى تلك اللحظة باختياره، وقرر أن يموت في بيته، ليس في أي مكان آخر، هو الكثير التجوال داخل سوريا وخارجها، فلا يكاد يعود من رحلة حتى يسافر من جديد.
كان يمكن له أن يموت في لندن، أو زيوريخ أو برلين أو باريس، أو بيروت التي صارت محطة تربط بينه وبين سوريا والعالم. أو أن يرحل في مكان محايد، في فندق، أو بيت أحد الأصدقاء، في مدينة سورية أخرى مثل حلب أو طرطوس، لكن الموت قرر أن تكون الخاتمة في بيته في دمشق، ويبدو أن الكاتب أحس ذلك، وأراد أن يرمي الحياة والموت فوق ذلك الكرسي، كمن يضع رأسه على صدر أمه، ويترك الروح تصعد إلى السماء، لتظل هناك مثل طائر الحمام، الذي يمضي العمر، وهو يحلق فوق سطوح المدينة.
رغب الروائي أن يأتي موته بلا مشقة، مثل لحظة الكتابة، يجلس على الكرسي، ويترك لروحه أن تخرج إلى الهواء الطلق. ليس ذلك مصادفة، بل خياراً أملاه حدس الكائن الصافي، صاحب القلب الأبيض والوجدان، النبيل، هذا هو الحال التراجيدي في المأساة السورية التي يحدّها الموت من جميع الجهات، ويعبرها الفقدان طولاً وعرضاً، من أمامها خراب، ومن خلفها دمار، ولا عزاء لأحد. هكذا هي دروب الآلام مفتوحة على الخسارة فقط. ولم يكن خالد سوى أحد المشائين المثابرين على هذا الطريق، حاملاً في يده كتابه، وعلى ظهره صليب الخلاص لبلده المنكوب.
لجميع الموتى إسم واحد، كما يأتي في رواية خالد “الموت عمل شاق”. رحل قبله كتّاب آخرون في دمشق، ولم يكن موتهم مقطوعاً عن زمن الخراب، الذي ضرب المدينة. الشاعر ابراهيم الجرادي، الشاعر بندر عبد الحميد، القاص عادل حديدي… ومر موتهم مثل مقاطع متواترة في سمفونية حداد سوداوي طويل. لم يرث أحد القاص عادل حديدي، سوى السيدة رلى ركبي، كانت كلماتها القليلة في فايسبوك موزونة بثقل الكارثة التي ضربت المدينة. ومرت وفاة الجرادي بصمت كأنه لم يكن أحد اصوات الشعرية الجديدة، ومن النقاد الذين تجرأوا على الجمود المفاهيمي والايديولوجي. وحده رحيل بندر حظي بردود أفعال من داخل سوريا وخارجها، كونه جعل من إحدى زوايا وسط دمشق مضافة ثقافية، قصدها السوريون القادمون الى دمشق من المحافظات الأخرى، تعرفوا فيها على الحركة الثقافية، ووجدوا مكنا للاستراحة، وكذلك للأدباء القادمين من خارج سوريا.
مات عمر أميرلاي في الخامس من شباط 2011، قبل وقت قصير من اللحظة السورية، التي كان يحلم بأن يكون أحد شهودها كسينمائي، صاحب إنجاز كرسه في تطويع السينما كمرآة لحاضر السوريين القاسي، ولذا كان رحيله من النوع الذي أوجع كل من شاهد أفلامه، حسرة طويلة، لو كان عمر حياً ليعيش هذه حالة الفرح والدهشة والفيضان. وبقي ذلك الفقدان يشبه الإنذار من الزلزال.
وخارج دمشق، مات الروائي خيري الذهبي في باريس، وحاتم علي في القاهرة. سكت دماغ خيري لأشهر قبل أن يرحل، كأنه وقفة احتجاج على مصير كارثي، اصاب البلد وشرد أهله، بينما توقف قلب حاتم أثناء النوم، وهو في غمرة العمل على مسلسل جديد عن الزير سالم، صاحب الفروسية المغدورة.
يتقاطع خيري وحاتم مع خالد خليفة في الرحيل المفاجئ والقاسي وغير المتوقع، وفي التركة الكبيرة من الأعمال التي أحبها السوريون، بوصفها صورتهم في الفن والحياة. والثلاثة كانوا من أصحاب الرواية الأخرى عن الناس والحق والحرية.
لا يموت الناس في دمشق في هذا الوقت، مثلما كانوا يموتون في السابق، ولا مثل بقية البشر الذين يرحلون في المدن الأخرى. هذا ما يحسه، على الأقل، كثير من السوريين الذين يفجعهم الموت من حين لآخر برحيل عزيز أو عزيزة. يشعر السوريون أنهم يموتون أكثر من مرة، من الحال المزري الذي وصلت إليه بلادهم، من خراب العمران وعودة المدن إلى زمن بعيد، ومن تشردهم وجوعهم ومعاملة الآخرين غير الكريمة، من أنهم أضاعوا بلدهم وصاروا طوائف وعشائر مهجرة في العالم.
لا يمكن أن نتلقى أخبار موت أهل دمشق من دون أن نقرنها بما آلت إليه عاصمة السوريين، من دمار وخراب على المستويات كافة. المدينة التي كانت تضج بالفرح على مر التاريخ، حولها حكم آل الأسد إلى ما يشبه مقبرة جماعية للأحياء قبل الأموات.
نشرت على المدن هنا