تمهيد
“أشعر بالعرفان والتقدير لأصدقائي الذين كانوا معي كرماء كما هي عادتهم دوما، قرأوا مسودات هذه الرواية في مراحلها المختلفة… بداية أشعر بالعرفان الدائم لصديقتي الرائعة… في هذه الرواية كانت معي منذ اللحظات الأولى لبداية فكرتها قبل أكثر من عشر سنوات، واستمعت طوال سنوات الكتابة الى هواجسي، احتملت قلقي، وقرأت المسودات الأولى الفوضوية والنهائية أكثر من خمس مرات…”
ليس سهلا أن تستمر في قراءة رواية، “لم يصل عليهم أحد” لخالد خليفة، بشكل عادي وسلس، لأنك لا تقلب بين يديك كما ضخما من الأوراق، بل كمّا مخيفا وحارقا من عذابات ألم حمم البركان التي تتدفق من شقوق النص، وفوهة المعنى الذي تحاول سيرورة القراءة تتبع منعرجات تشكله الوعرة، من صفحة لأخرى، أوبشكل أدق من محنة وتجربة مؤلمة لأخرى أكبر منها وأعقد بكثير. وأثناء القراءة، أنت لا تقوى على تجاهل السؤال المرعب والحارق الذي يلاحقك بضغط عنيف، ويحاصر فرضياتك التأويلية، وتساؤلاتك القلقة، وهواجسك التي ترهق كيانك بعشرات الأسئلة المحرقة: كيف استطاع الراوي والكاتب الضمني والصريح لأكثر من عشر سنوات، ومن خلال عشرات المسودات التي وجدت نفسها تحت رحمة الناسخ والمنسوخ، والحذف والاضافة والتعديل، تحمّل عبء نسيج عنكبوت التراجيديا، المحفوفة بعذابات الآلام الحافرة، كمدية حادة تنغرز في القلب والدماغ الى حد الجلطة الدماغية، وهي تهدد بموت شاق فجر سردية لم تكن في الحسبان، مرعبة، وخارج المنطق والمألوف واللامعقول، لكنها كانت واقعية أكثر من الواقع، ولا يملك الانسان حيالها في مثل هذا الواقع العربي والسوري خصوصا إلا أن يصدقها في غرابتها وجنونها المنطقي واللاعقلاني؟ كيف أمكن لهذا الشامان السوري أن يتأبط أساطيره، حكاياته، سردياته المفتوحة النهايات بشغف كبير بحثا عن المعنى الذي أتت عليه أشكال مختلفة من الطوفان المائي والزلزال الأرضي والدموي، دون أن ننسى ما خلفته المجاعات وحروب القهر والتعصب والتسلط. كل هذه الأحداث في وحشيتها لم ترحم صغيرا ولا كبيرا، رجلا ولا امرأة؟
كيف أمكن له أن يحمل هذه الأمانة الشاقة والصعبة للبحث عن الشكل والمعنى، لكل ما حدث ويحدث في جذوره الماضوية وامتداداته الراهنة، الآن هنا، من قتل، وتهجير، وخراب ودمار، وتمزق وتشظي للهويات والطوائف والمذاهب والاثنيات…؟
هذه الأسئلة التي ليست إلا السؤال الجذري المؤرق الحارق والمؤلم الذي ولدته سيرورة القراءة في تقمصها الفني والنقدي لأجواء وفضاءات وديناميات البنية الروائية، ولمختلف التفاعلات المعنوية والدلالية والفكرية التي أنتجها جدل الكتابة والقراءة في رحلة بحثه عن الشكل والمعنى لجعل الانسان، الممسوس بشرّ هذه المأساة المتجددة باستمرار، في الصورة قصد إزاحة اللبس والغموض، واستعادة المعنى والأمل في معانقة فرحة الحياة، والولادة من جديد للمجتمع والمدينة: حلب/سورية؟
1 – في البحث عن الشكل والمعنى
“لحظة وصولي مع زكريا الى القرية المدمرة، لم أتوقع معنى الطوفان، وحين رأيت آثاره لم أصدق. مازلت غير مصدق. سرت دون تفكير الى الغرفة، اكتشفت وجود ثلاث مرايا كبيرة، كانت تعكس ضوءا ما لا أعرفه، القمر، أم صفحة النهر، أم وجوه الموتى؟ وقفت أمام المرآة الكبيرة، كان وجهي يشبه سحلية بقرون قبيحة” 34
في رواية “لم يصل عليهم أحد” وجد الراوي نفسه أمام مسؤولية جسيمة إزاء سيرورة المأساة في تكونها وتطورها عبر التاريخ الحديث والمعاصر لمدينة حلب/سورية. ولا متسع أمامه لاختيارات كثيرة لإعادة الأمور الى وضعها الطبيعي، إلا من خلال السرد، الحكايات، القصص الديني، الأسطورة…، إنه في وضعية أقرب الى الفعالية الرمزيةللوحي والرؤيا، أو الى القديس والولي الصالح، صاحب المعجزات وأبو البركات. لكنه ليس إلا روائي هزته المأساة العميقة الجذور. خاصة وأنه يستحضر مرحلة تاريخية من السيطرة العثمانية، وهي مرحلة مرعبة ومؤلمة في مخاضاتها الانتقالية، بين القدامة والحداثة، بين القوة والتحديث الأوربي والهشاشة والتخلف العثماني، بين الرغبة في الإصلاح وغلبة النزعة المحافظة الدينية الصوفية والانكشارية. فلا إمكانية للتغلب على عذابات الآلام التي نزلت على الراوي بثقلها الرهيب وجعلت حياته وحياة الناس دربا من الآلام والمآسي الرهيبة التي تتجاوز طاقة الانسان في القبول والتقبل والتحمل لشر المأساةالتي فرضت نفسها بعنف وبأساليب وممارسات لا منطقية وغير عقلانية ولا معقولة في جنونها الفتاك الى حد التدمير ونشر الخراب الأقرب الى نوع من الفناء والابادة التي تجعل الانسان عاجزا عن الفهم والوعي وتشكيل المعنى حيال ماحل به من رعب مروع في القتل والتهديد بالموت. لذلك لايملك الراوي خيارا آخرغير التسلح بالحكي للتغلب على الاختلال واستعادة التوازن المفقود. خاصة وأنه عانى طويلا وهو يحمل في جوفه العميق تاريخا بشعا مثقلا بالأحزان والدموع والخيبات والآلام والدماء البريئة التي لا تكف عن النزيف من جيل لآخر، كما لو كانت قدرا محتوما، أو مسا لوث السيرورة التاريخية الاجتماعية لمدينة حلب/سورية. بألم لا يخلو من عذاب الترحال حمل الراوي هذه الأمانة في البحث عن الشكل والمعنى لإعادة الأمور الى نصابها الحق، من خلال كشف المستور وإزاحة الظلال الوارفة التي ضللت الناس وأفسدت المعنى وحولت حياتهم الى سيرورة جحيم لا ينتهي. وأيضا رسم السبل للنجاة والخلاص من فقر الدم التاريخي الذي جعل الانسان جاهلا وعاجزا عن فهم الينابيع العميقة لعنف الدماء والمآسي التي يرزح تحت وطأة قهرها البشع والهمجي.
“لم يصل عليهم أحد” ليست رواية بالمعنى المتعارف عليه، إنها شكل من الفعالية الرمزية في رحلة البحث عن المعنى واليقين والحب، وسر الوجود والحياة التي جرفتها المجازر، والحروب والزلازل والمجاعات، وأتى الطوفان والتعصب السلطوي والديني على ما تبقى من أمل في الحب والحياة. إنها رحلة بحث شاقة عن المعنى الوجودي الذي انهار في انحدار رهيب من محنة لأخرى. هكذا تؤسس الرواية سرديتها في وجه الألم المروع والرهيب الذي فجره الشك الوجودي وانعدام اليقين، واعتلاء العدم شاشة الرؤية والتفكير، مما أدى الى سيادة سطوة اللامعنى الناتج عن الطوفان الذي أتى على قرية حوش حنا، وقبله كانت المجازر والمجاعات والزلازل، والطغيان السياسي والديني والمجتمعي، والخيبات والخسارات، والسطوة المخيفة للحزن والألمإلى حد التلاشي والموت، وما يرافقه من محن مشبعةبدلالات الفقدان والتيه والضياع،وكل أحداث الرعب الرهيبة التي أرخت ظلالها على حلب/سورية.فسيّجت كل هذه المآسي القلب، وحالت بينه وبين عيش لحظة حياة، كفرح وحب مستحيل هارب،حيث كل شيء كان في حالة طوارئ قصوى. القارئ يجد نفسه أمام كم هائل من العذاب المروع، المتولد من سيرورة أحداث طبيعية وسياسية اجتماعية وتاريخية، خلفت مقدارا مهولا ومفزعا من الآلام التي أعدمت المعنى الوجودي، وهددت وجود الحياةفي مدينة عرفت التنوع والتعدد والاختلاف الديني والاثني والمذهبي والطائفي، كمكونات اجتماعية وثقافية تفاعلت جدليا بتسامح يشوبه قلق الخوف والدونية والتمييز، والتهديد الوجودي لأتباع الديانات والاثنيات غير المسلمة. “كان المسيحيون يعيشون كمواطنين من الدرجة الثانية لا يحق لهم السير على الرصيف، ويجب أن يهبطوا من الرصيف إذا قابلوا رجلا مسلما وعليهم ارتداء ألبسة خاصة تميزهم عن المسلمين، والأهم يجب دفع الجزية عن كل رأس مسيحي يريد الاحتفاظ بديانته”.58
فالرواية إذن، هي بمثابة التعبير الفني الثقافي لتجاوز محنة الشك والفراغ واللامعنى التي فرضتها عذابات الآلام التي سببتها تلك الاحداث الرهيبة التي أشرنا إليها. هكذا تشتغل الرواية كإجابة أدبية ثقافية لاستيعاب وتخطي حالات التمزق والتشظي والخراب والدمار والمجازر والقهر بمختلف أنواعه ومستوياته اللامعقولة التي هددت وجود الحياة، كما أعدمت دلالات معنى الوجودالإنساني. وبالتالي جعلت الحياة عارية على حافة الموت الذي يمكن أن يسدل ستار ظلامه وعدمه في أي لحظة فجائية. ورواية ” لم يصل عليهم أحد” وفق هذا الفهم والتصور الجمالي والثقافي، وتبعا، للمعطيات الاجتماعية السياسية، والتاريخية التي تتناولها الرواية،والتي تشتغل بوصفها سياقات تؤطر سيرورة القراءة في بناء المعنى وإنتاج الدلالة، هي محاولة جريئة في تسمية الأشياء بأسمائها لوضع حد لسطوة الضياع والشك واللامعنى الذي فجرته آلام طوفان النهر والزلازل والمجازر والمجاعات والتعصب الديني، والكراهية المشحونة بالضغينة ضد الحب الذي صار مستحيلا، والحياة التي سكنها اليأس والبؤس النفسي والعاطفي والاجتماعي الى درجة الرغبة في الموت، مع الاجهاز على التنوع والتعدد والاختلاف المنمي للذات والآخر…
بهذا المعنى نحن أمام شكل سردي يؤسس المعنى ويضع الدلالات حتى تتعرف الذات على نفسها، وتتمسك بمشروعها الوجودي في وجه الخراب والتدمير، حيث مخالب الموت خلخلت اليقين والتوازنات والتفاعلات ومختلف الجدليات الثقافية والاجتماعية والدينية التي ميزت ثراء التكون والتطور التاريخي لمدينة حلب/سورية. إنها محاولة فهم وبناء معنى المأساة التي انتصرت فيها الآلة الرهيبة للقهر والموت الاعتباطي الطبيعي، والسياسي الاجتماعي والديني، في مختلف صوره وتجلياته في الطبيعة، وفي الرؤى والأفكار والدلالات والعلاقات، وفي المتخيل النفسي والاجتماعي والديني لصناعة القداسة. إنها محاولة ترميم تشظي وتمزق اليقين والمعنى الوجودي الذي سقط وانهار كليا ولم يستطع الصمود في وجه وحشية العواصف المجنونة التي تحولت فيها الطبيعة حينا الى سيول عارمة من المياه الغاضبة الجارفة لكل ما يعترض سبيلها الهائج والعدواني. كما أخذت حينا آخر شكل زلازل رهيبة جعلت المدينة في رمشة عين مجرد أنقاض وخراب وجثث عطنة التهمتها الحرائق خوفا من انتشار الأوبئة التي كانت تطل برأسها من بين شقوق الكوارث المتتالية. وبين هذه المآسي كانت المجازر والكراهية والتعصب تعلن عن وجودها البشع والمدمر للهوية المجتمعية في التنوع والتعدد والاختلاف، الحاضن لقيم الحب والتسامح وعشق الحياة.
2 – محنة الألم وعذابات حرقة الأسئلة
“أنت لست امرأة بل نهر أستريح في قاعه من حرقة الأسئلة.” 200
لم تكن شخصيات الرواية في أي فترة من حياتها بعيدة عن محنة الألم، فهي كانت تتوارث هذه المحنة بشكل أو بآخر. حيث نتعرف عليها منذ الصفحة الأولى، وهي تعيش تجربة ألم الطوفان الذي أتى تقريبا على قرية حوش حنا بكاملها. فوجدت الشخصيات الرئيسية نفسها في خضم محنة قلبت حياتها رأسا على عقب، على مستوى الأفكار والرؤى والدلالات، والتصورات والمعتقدات، والعلاقات الاجتماعية، كما على مستوى نمط الحياة والرؤية الوجودية الى الذات والأخر والعالم. هكذا ” أصيب حنا بذهول تام ظن للحظة أنه فقد النطق… فكر أنه أصبح مرة أخرى وحيدا دون عائلة” 2. فبعد نجاته من الموت في مجزرة ارتكبها الضباط العثمانيون في حق جميع أفراد عائلته. “ صدم حين رأى جثة والده كابرييلكريكورس مرمية على حمار، وهو يعض بفمه المرتخي الشفتين على عضوه المقطوع… هذه الصورة لازمت حنا طوال حياته، لم يفهم لماذا يبصق الناس على رجل ميت.”39 وجد حنا، الآن، نفسه أمام طوفان فجر محنة ألم أخرىزلزلت أعماقه، وغمرته بعقدة الذنب والتأثيم. ” شعر بالذنب والحنين لابنه ووجه زوجته اللطيف التي احتملت حياتها معه.” 7 فأمام الموت كان شخصا هشا مرعوبا وقد تملكه الفزع، وانسد الأفق حالكا في وجهه. لذلك ” شعر حنا أنه عالق في نفق مظلم، يسمع صوت تحطم عظام كائنات منقرضة تحت قدميه. لم يحتمل زكريا رؤيته خائفا الى هذه الدرجة” 2 .هكذا كان حنا عاجزا عن فهم معنى الطوفان الذي أتي على اليقين والمعنى الوجودي للإنسان في رمشة عين، ومضى النهر كعادته في سبيله” كأنه لم يفعل شيئا” 2 . وإزاء هذا العجز في فك لغز غياب المعنى لما حدث في هذا التحدي الذي نصبه الموت في وجهه، وجد حنا نفسه غارقا في عقدة الذنب والحساب العسير مع الذات، وهي تحفر أسئلتها المحرقة في دواخله. حيث كان لمشهد، أو تجربة الموت المفزعة دورا في بروز نوع من النقد الذاتي العنيف تجاه الذات.” رأيت في منامي وجهي القبيح مرة أخرى، كان جسدي منهكا، تغلغلت فيه رائحة الموتى. الدفن لا يعني نهاية الموت.”34 فقد تملكته أسئلة الموت الى درجة قصوى. ” شعرت لأول مرة بطعم الموت يسري تحت جلدي، يجول في أرجاء جسدي.“34 وهذا العسر في الفهم والمعنى هو ما ورطه في محنة الألم خائفا مذعورا أمام أسئلة عميقة انفجرت فجأة في نفسيته، وهي تضع ذاته كمشروع وجودي إنساني على عتبة مقصلة الموت التي لا ترحم الإنسان، خلال تفكك وتمزق هويته الفردية وحياته الشخصية، وهو يعاني من فقدان الفهم والمعنى، وضياع دلالات البعد الوجودي للحياة. “ تحولت ساعات نومي القليلة الى كوابيس رهيبة، أنهض كل ليلة من فراشي كميت، أسير في الغرفة، أشعر بخوف من الخارج، وتربص النهر بي. كل شيء كارثي من حولي، لا أستطيع شرح أي شيء لزكريا كي لا أزيد همومه، خسر ابنه أيضا، وعلى كتفيه الصلبتين يحمل آلامنا المقبلة، أراه يسير في الأرض بخطى ثابتة، قويا كبغل، يلملم ذاكرتنا كي يدفنها.”35
وتجربة محنة الألم نفسها عاشها زكريا الذي رافقته رائحة الموتى الى الأبد، وهو يرى التحول السريع والرهيب لزوجته، واستسلامها لصورة الموت التي نشرها الطوفان بشكل فظيع تجاوزت طاقة الانسان، وقدرته على الفهم والقبول والتقبل والتحمل، خاصة وأن أسئلة هذا التغير المخيف لزوجته ” شاها” ظلت عالقة، ولا يمكن ربطها بصدمة الموت.” الطوفان لم يأخذ ابنهما فقط بل دمر ما بقي من شغفهما وحبهما… لا يمكن لرؤية الموت أن تحول شخصا في ساعات قليلة الى كائن آخر، عيناها الضاحكتان غارتا، تحولتا الى حفرتين من دم متختر.“3 هكذا كان زكريا يتجرع مرارة الألم،و يتجشم عناء حرقة الأسئلة التي خلفها الدمار النفسي الذي سببه الطوفان لدى كل الناجين. ” الطوفان دمر حياتهم ولا أمل في النجاة، النخر العميق في أجساد وأرواح الناجين القلائل أصابه أيضا.” 28
لاشيء يبعث على الفرح والأمل في حياة شخصيات الرواية. مسارات مرعبة، وأقدار تراجيدية مفعمة بالألم واليأس والخيبة. من وليم عيسى الى عائشة المفتي، وبين مريم ووليم، سعاد وحنا، دون أن ننسى أم الخير ومارغو التي وجدت نفسها في آخر المطاف” تحتضن تمثال العذراء بين يديها وتطلب الموت من الرب.”61 حيواتهم جميعا تنتظر كانت حتفها على أحر من الجمر، وهم يطلبون من الرب أن يستعجل موتهم، ويعلنون دون مواربة شغفهم بالموت.
خوف ورعب وهروب من الموت أتت به مسارات حياة تكتنفها المعاناة، وتُحايثها لعنة الخسارات، ودلالات الفقدان. بالإضافة الى مجازر رهيبة كما عاشتها مثلا مارغو وهي طفلة صغيرة في الموصل، فكانت حياتها مثقلة بذاكرة القتل والموت الذي يترصد خطواتها. وتعذبها الحياة في انتظار موت يكون خلاصا من محنة الألم التي ظلت تطاردها عبر منعرجات حياة لم تكن كالحياة. ثم عاشت تجربة الهروب مرة أخرى من موت محقق بسبب المجزرة التي طالت عائلة حنا. حيث استطاعت تهريبه الى بيت العائلة المسلمة لأحمد البيازيدي. ” مشكلة مارغو التي لا يعرفها الكثيرون هي ذاكرتها التي مازالت مثقلة بمجزرة الموصل التي أقدم فيها الانكشاريون على ذبح خمسين عائلة سريانية وتهجيرهم من منازلهم، رموا جثثهم في مقبرة جماعية مجهولة. شعرت بأن تاريخها يتكرر بحذافيره، هي أيضا كانت فتاة صغيرة في عام 1834 ونجت بأعجوبة من المجزرة، لم يبق أحد من عائلتها.”40وكل الشخصيات الرئيسة والثانوية في الرواية وجدت نفسها في عذابات الألم والموت السلطوي، والاعتباطي الطبيعي الذي كانت وراءه الزلازل والمجاعات، بالإضافة الى الحروب العثمانية (السفربرلك). جميعهم بدون استثناء يحيط بهم الألم والخسارة، ويقطفهم الموت في منتصف الطريق، كما فعل مع رضية أم زكريا التي كانت تتجنب قصص الأموات بسبب قسوة ما عانته في حياتها من خسارات. بالإضافة الى عائشة زوجة يوسف التي رحلت قبل الأوان، في وقت كانت نفسيتها تتمزق من شدة الألم والخيبة والغصة العميقة في القلب جراء الإساءة التي تعرضت لها من قبل مريانا. هذه مجرد إشارات على سبيل المثال لا الحصر لبعض شخصيات الرواية التي تألمت قهرا وظلما وفقرا وجوعا وخوفا وعشقا وحبا… تبعا لمصائر تراجيدية مروعة سيّدت لحن الفجيعة والحزن الوجودي الذي غطى كل الممرات الممكنة للحب واليقين والطمأنينة والسكينة للنفس البشرية، أمام سيرورة لعنة المآسي والأحزان التي تتكاثر باستمرار، مانعة فرحة الحياة وانعتاق الوجود الإنساني من سطوة التغلب والتسلط السياسي، والقهر والكراهية والتعصب الديني…
إذا كان حنا قد تعامل مع صدمة المجزرة التي أنهت وجود عائلته بنوع من الاستخفاف من رعب الموت، سالكا سبل المتعة واللذة. غارقا في اللهو والقمار والجنس بعيدا عن أسئلة الموت وسطوة المعتقدات الدينية التي تقلل من قيمة المتعة واللذة والفرحة وأخذ النصيب من حصة الدنيا والشيطان، دون خشية من لوم بعض رجال الدين الذين يحتقرهم ولا يكن لهم الاحترام والتقدير. فإن كارثة الطوفان التي انهار فيها المعنى الوجودي وساد فيها الشك الذي فجرته حرقة الأسئلة، وهو يرى قرية حوش حنا أثرا بعد عين، دفعت بحنا في درب الآلام بحثا عن معنى الطوفان الذي رأى فيه عقابا وإشارة ربانية للتخلص من شخصيته القديمةالعطنة. ” شعر حنا بأن الطوفان لم يغرق زوجته وابنه فقط، لكنه أغرق ماضيه المتهتك، الصاخب، حياته الكاملة.”6 لذلك رأى في الطوفان ولادة جديدة لرؤية الذات والأخر والعالم، بشكل نقيض لكل ما عاشه سابقا من تهتك واستهتار وفقدان للمعنى. وفي سياق بحثه عن معنى الطوفان، وما يخفيه من أسئلة جذرية، بوصفها مراجعة نقدية لمسار حياته، حاول الخروج من هذا النفق المظلم، من خلال عكس، وقلب جدل حياته من المتعة والبحث عن اللذة، الى البحث عن الخلاص بالسير في درب الآلام، في نوع من الزهد الأقرب الى التوحد الصوفي في معانقة الأسئلة المحرقة.وبذلك منح معنى محددا للطوفان انقاذا لنفسه من هول الكارثة التي تلبس فيها الموت كيانه. ” نعم لم أمت لكنني أعيش بامتياز الأموات… في اليوم الأول تقرحت قدماي، كان الألم يصعد الى روحي، يغسلها، يرمي بالمياه القذرة ويدفنها في أعماق الأرض.“38 هذا ما جعله يؤسس فرضياته التأويلية لمعنى الطوفان انطلاقا من سجله الثقافي الاجتماعي والديني، وتاريخه الفردي الذي شكل هويته الشخصية، وحدد روابطه المجتمعية وعلاقاته مع الذات والأخر والعالم، خاصة مع زوجته التي أثرت فيه رسالتها في الحياة كثيرا، واتخذ الآن رسالتها هذه موجها ارشاديا في خوضه محنة الألم، بوصفها ولادة جديدة تسمح له بالتخلص من حنا القديم. ويتخفف من تاريخه الثقيل بالعربدة والقذارة التي غرق فيها في قلعة اللذة التي بناها. يعرف حنا جسامة التغيير وما تطلبه الصيرورة لسلخ ليس فقط جلده القديم، بل أيضا ما ترسب في جوفه الداخلي من كبرياء وقوة فاجرة. “كنا أقوياء جدا، والآن أنا ضعيف جدا، أسير كمشرد على ضفة النهر العظيم، الذي قتل بجبروته كل هؤلاء البشر، يتربص بعضنا ببعض، لا تغشني وداعته، كما لا تغشه وداعتي. التخلص من تلك النفس الآسنة سيحتاج الى وقت طويل، لا يمكن أن تنقر بإزميل جبلا تكون عبر مئات السنين وتهدمه، تحتاج الى نقر يومي، بهدوء وأناة وصبر. كنت أمرن نفسي على هذا الصبر الذي سأحتاج اليه في طريقي لدفن ذاتي القديمة.“38 تبعا لهذا الفهم والتأويل لمعنى الطوفان رسم سبلا للاشتغال على الذات، وخوض المعركة الداخلية للتغيير. واثقا من أن الذي لا ينتصر على ذاته ينهزم بسهولة أمام أي شيء آخر. هكذا تغيرت قناعاته وأفكاره من اعتبار اللذة ينبوعا للحياة الى التخلي عن كل شيء تقريبا. فسلك طريق الحقيقة كما قال يوسف لزكريا بعد أن رآه حافيا نحيفا شغوفا بالترحال، مكتفيا بالقليل، مع العلم أنه أحد الملاك الكبار للأراضي. لكن الطوفان منح معنى جديدا ونقيضا لحياته السابقة. ” كان يومي السادس في طريقي الى حلب، الذي أكملته بخفة، لم أعد أشعر بآلام الطريق، أشواكه، صلابته تحولت تحت قدمي الى رخاوة رائعة، وبرودة منعشة، كنت أشعر بأنه نبت في ظهري جناحان يحملانني الى حيث أريد… سأقضي عمري كله أسيرحافيا، أقتات هذه الطعوم الرائعة للخضار والفواكه المجففة، معترفا بيني وبين نفسي بأن الذي كنته لا يكفيه الكثير الذي يمتلكه، تثيره رغبة الانتقام، ويخيفه الفقر، كنت أغص بالأشياء التي مازالت تجرحني، تطوقني وتخنقني، الآن يكفيني القليل، بل اللاشيء، مادام هناك نهر ورياح وتراب لن أخاف من أي شيء، لست هدفا لقطاع الطرق والقتلة، أنا ميت، لا يفيد القتلة رجل ميت.” 36و37
3 – تمخض الوهم فولد قديسا ميتا
في سياق بحث حنا عن معنى الطوفان الذي ولد في نفسه أسئلة الحياة والموت، بدأت حكايات مارغو حول مذابح السريان والمقابر الجماعية تستحوذ على تفكيره. أخذ يفكر في نوع من رد الاعتبار لمن مات في مجازر مروعة بسكاكين القتلة من ” البشر البؤساء، لم يدفنهم أو يصل عليهم أحد.” 107 هكذا اتجه تفكيره نحو الماضي للعيش مع الضحايا، بعيدا عن حسابات القوة والسلطة ووالقداسة التي كانت تقض مضج مريانا، وهي تضع يدها في يد الكنيسة الجشعة. لم تكن ترى في درب الآلام الذي اختاره حنا، كرجل زاهد من كل شيء، إلا مشروع قديس. لذلك كانت تنسج هوامات القداسة، حيث يكمل الرواة شطحات وهمها الذي انبلج فجأة في نفسيتها المنهكة بالخسارات والآلام الدفينة. نزوة السلطة كانت تحفر أعماقها، في الوقت الذي كان حنا يحلم بصفاء الايمان الروحي المشحون بالزهد بعيدا عن خدع العبادة والتدين. “ شعر بضيق من أسئلة الخوارنة… قال: إن إيمانه الذي لم يكتمل مختلف عن إيمانهم، مازال يعيش لحظة المخاض القاسية… فكر أنه يستطيع اكمال مشروعه، سيرمم الكنيسة ويمنحها للمؤمنين، ويبني ديرا يكون مكانه النهائي، يعيش فيه مع أصدقائه الذين سيصلون الى لحظات الزهد التي وصل إليها. سيكون الدير مليئا بالعاجزين، والرجال الذين يعانون من فرط الخيال، ولا يصدقهم أحد حين يتحدثون عن أجسادهم المفككة التي تسير في الطرقات.“107 تبعا لهذا الأفق سلك طريق الترحال بحثا عن ذاته ، دون أن يشغل باله بأسئلة الإيمان والإلحاد. ولا بكل ما هو مسطور حول المسيح ومعجزاته. لذلك لم يكترث بوهم مريانا في تطويبه قديسا، ” لأنه لم يكن في حياته معجبا بالمعجزات، بل كان شغوفا بالحياة المثقلة بالأخطاء والحماقات… لم تعجبه سخرية الرهبان… ولم يعجبه التلميح إليه بأنه يشتري القداسة بنقوده… لا يملك طاقة على نقاش أناس يعتبرون أنفسهم يمتلكون الحقيقة، كان يتمنى لو أنه زار هذا المكان قبل سنوات قليلة، لم يكن يتوانى عن دق عنق بعض الخوارنة والبصاق في وجوههم الساخرة، والتبول على قداستهم، لكنه الآن يفكر في أشياء بعيدة لا يريد لأحد إفسادها برأيه. البحث عن الذات لا يحتاج الى وضعها على طاولة طعام قذرة أمام العامة. كل ما تحتاج إليه هو التكور على نفسك ورمي أشلائها على جدران غرفتك.” 108 وكان الأب إبراهيم الحوراني مرشده الروحي في السفر والترحال بحثا عن الذات. يؤطر حناشغفه وهواجسه بالأسئلة المحرقة للحياة والموت، بعيدا عن أوهام القداسة التي طوقته بها مريانا لتطويبه قديسا بالتحالف مع رجال الدين والكنيسة لغرض في نفس يعقوب، أي التحكم في معتقدات الناس، وتكريسهم للبؤس النفسي القذر.فهم يستغلون بشكل بشع واقع الناس البؤساء والمرضى، ويتاجرون بآلام المعذبين. لهذا كانت رؤيته للتغيير، الذي يريد عيشه على مستوى العلاقة بالذات والآخر والعالم، مختلفة عن الوهم الذي تمخض في جوف مريانا فولد قديسا ميتا، حيث ” فوجئت بجوابه ساخرا منها حين قال لها: كم هي مكلفة إذن فكرة صناعة القديس.”109 لكن مريانا لم تستسلم بسهولة، بل مضت في طريق تطويبه قديسا، وهي تحاصره بكل ما من شأنه من القصص والروايات والأخبار التي تجعله مشروع قديس، متورط رغم أنفه في آلية صناعة القديس والمعجزات. إلا أن إرادة حنا كانت أقوى من الوهم الذي احتضنته ماريانا طويلا. ” قلت للأب إبراهيم: القداسة وهم، عبرت عن سعادتي بأن مشروع ماريانا المزيف لن ينجح في جعلي قديسا.“123بالفعل حنا كان واثقا من نفسه، وهو يرى الموت كالطوفان يحصد أرواح العشرات من الشباب في الحروب والمجاعات التي نزلت بثقلها المخيف على المدينة، مما أدى بحنا الى الثورة على نفسه بشكل جذري للتخلص من وهم العزلة والتأمل العاري من أية مصداقية أخلاقية ودينية وواقعية، أمام الرعب الذي نشره الموت في الشوارع.” لأول مرة شعرت بسخافة ما أفعله، تلك العزلة القسرية، تلك التأملات في أصول خلق الكون، ومفهوم الله والجمال والموت، هاهو الموت يسير بقدمين حافيتين، يدب على الأرض قربي ويحصد آلاف الأرواح… ضحكت في سري وأنا أتخيل ورطة ماريانا وهي تتحدث بحماسة عن قديس وهمي، لا يمكن التعاطف مع من يموتون جوعا سوى بمشاركتهم الموت” 128.
“فكرت في صالح العزيزي ولحقه بحكمتضاشوالي وقتله، حكايته لم تتركني، كنت معجبا بشغفه، لقد انتقم لنا. أفكر بقوة الحب حين تحول الكائن من خادم الى شاعر جوال زاهد، ثم الى واش ثم الى قاتل ثم الى منتحر ثم الى إمام العاشقين.” 123
ليس غريبا أن تؤسس رواية ” لم يصل عليهم أحد” بنيتها السردية والدلالية، شكلا ومعنى، من خلال الصراع والتناقض في أبعاده التراجيدية الرهيبة. حيث تحضر الحروب والمجاعات والتسلط والقهر السياسي والديني، والاحتلال العثماني والفرنسي، والطوفان والمجازر ضد الأرمن والسريان، والمسيحيين بشكل عام. والحضور القوي للتحولات المجتمعية بفعل صدمة الحداثة الأوربية، وما خلفته من رضات اجتماعية وثقافية، تفاعل معها الافراد والفئات المجتمعية ثقافيا واجتماعيا وسياسيا بشكل مختلف الى درجة ممارسة العنف الرمزي والحركي بقمع حريات وقناعات وتصورات واختيارات الاخرين. سواء كان ذلك من طرف قوة الاحتلال العثماني بشكل سياسي مباشر، أو من خلال اعتمادها أيديولوجيا على التيارات الدينية المتشددة. وضمن هذه التناقضات والصراعات كان طبيعيا أن تحضر جدلية الحب والموت، التي هي تعبير صريح عن الترابط العضوي لجدلية الموت والحياة. لأن في هذا كله تكمن قوة الروائي في امتلاكه الحس التراجيدي في رؤية الشر في حضوره الفاعل كجزء من كينونة وشمولية حياة الانسان. هذا العمق هو ما يشكل فنية وجمالية الرواية، في كشف الظلال والمناطق المعتمة في حياة شخصيات الرواية، وهي تتألم وتعاني، وتصبر وتقاتل، وتحزن وتفرح، وتتراجع خنوعا وخضوعا وتتقدم باستماتة دون ترضيات أو تنازلات، وتفرح بالحياة وتعيش الموت في أسوأ معانيه كالطوفان والمجاعات والمجازر، أو على مستوى الذات وهي تتغير باستمرار حيث تتخلص من جلدها القديم، وكل الأشياء الميتة في النفس والفكر، والرغبة والجسد. كما تعيش الحب بكل أخطائه وزلاته في المتعة واللذة، أو في أسمى معانيه الدينية والعاطفية والانسانية، مشحونا بالمحبة والثقة في النفس، وأمل الخلاص. أو بالآلام والخسارات الكبرى، الى حد الانهيار والتلاشي. لكنها- الشخصيات- كانت تواجه ما يعترضها من جدران الكراهية الدينية، والعرقية والطائفية، والثقافية والاجتماعية والتسلطية، دون خوف من الموت والنهايات الحزينة المأساوية، كما حدث لكل من وليم عيسى وعائشة المفتي. والى حد ما بين وليم البيازيدي ومريم، أو بين حنا وسعاد، وزكريا وشاها…
مهما كان الشر، كصراعات وحروب ومجازر، ذلك الوجه البشع والمرفوض الذي يستنكر الناس حضوره القذر والمروع في رسم وتحديد مصائرهم، ووضعهم في أقدار تراجيدية مشبعة بالأحزان والآلام، الى حد طلب الموت للتحرر من وطأة الخيبات والخسارات التي تعذبهم، فإن جدلية الموت والحياة تفترض حضوره – الشر- الفاعل والحيوي في جعل حياة الناس تأخذ هذا المعنى دون آخر، حيث لا يمكن للإنسان أن يهرب من الصراعات والتناقضات التي تميز حياة المجتمعات أفرادا وجماعات، بحكم عوامل تاريخية اجتماعية ثقافية، وسياسية اقتصادية . فتبعا لهذا الوعي والفهم ينبغي مقاربة المسارات والتحديات، والعوائق والاكراهات التي أطرت السيرورة التاريخية، والروابط والعلاقات الاجتماعية والثقافية والدينية والسياسية… ، لشخصيات الرواية، وساكنة مدينة حلب/سورية، في محاولة عيشها الحياة كتجربة حب مستحيل.
4 – الحب وقراد الخيل
” لقد دفنا أحبابنا كما قلت، مات وليم عيسى وحبيبته عائشة المفتي، مات عزار صديقنا، مات ديفيد، مات عارف شيخ موسى، مات أبونا أحمد البيازيدي وقبله ماتت رضية أمنا، وقبلهم جميعا ماتت أمي وأبي وأختي وإخوتي الأربعة، كثيرون من أحبابنا ماتوا، ظننا أننا نجونا من الطوفان، عقدنا صلحا مع الموت لكنه غدرنا بموت عائشة، لم أصدق برودة جسدها، وابتسامها الثابتة، لم أصدق وجهك الأصفر ودموع يوسف وابنتها دلشان وابنها حسكو، مضى كل شيء ككابوس، كنا نظن أنها لعبة اخترعتموها لاستعادتنا أنا وزكريا، حين مددناها في قبري بعد تعديله ليناسبها، لم يعد لدي شيء أمنحها إياه سوى قبري، وبعد مغادرتكم شعرت بفراغ هائل داخلي، بقينا أنا وزكريا نلتقي فجرا عند قبرها، لم يعد لدينا شيء نقوله، يسير زكريا ببطء، يساعده بولس الذي أصبح عجوزا أيضا، منذ تلك اللحظة فكرت للمرة الأولى بأنني كنت سبب خساراتنا جميعا، دخلت باب منزلك قبل سبعين سنة وخربت حياتكم، وها أنا سأخرج للمرة الأخيرة من الباب نفسه، تاركا ورائي الجميع حطاما. حتى أنت محطمة، لم يبق منك شيء سوى الذكريات.” 199
اخترت هذا المقطع رغم طوله من رسالة حنا الى سعاد، لأنه نموذجي ويلخص بشكل مكثف الترابطات والمسارات المؤلمة، في الحب والحياة والموت، التي عاشتها شخصيات الرواية، وفق أقدار تراجيدية مرعبة ورهيبة، لم تكن فيها كل الشخصيات سلبية في الاشتغال على الذات وبناء الشخصية، وتأسيس الروابط والعلاقات، وتحقيق التفاعلات ذات التأثير والاعتماد المتبادل. يضع حنا هنا الأصبع على جراحات السرد الموشوم بحرقة الهزائم والخيبات والفقدان، والفشل الذي مُني به الحب المستحيل، وانتصرت الحياة من خلال التحولات العميقة التي مست المجتمع والذاكرة والهوية والتاريخ، وعرت بشاعة قهر المرأة، من خلال حب ذكوري يسلخ عنها إنسانيتها بازدواجية مقرفة في اعتبارها قديسة وعاهرة، طاهرة ومدنسة…
سعاد وحنا
رغم ما كان عليه حنا على مستوى الوعي والسلوك والافكار من قدرة وجرأة، في تحدي رجال الدين الذين يراهم هو وزكريا مجرد لصوص يسعون الى السلطة والمال.” لم يواجها كصديقين لحظة خطيرة كهذه، كانا يعتبران رجال الدين كقراد الخيل، تمتص دماء تلك الكائنات الجميلة، كثيرا ما سخرا من مشايخ وخوارنة.”115 وعاش حنا حياته على ايقاع خرق المألوف وانتهاك المحظور بحثا عن المتعة واللذة، دون خوف من حصة الشر والشيطان. بل كان “يحب الشر والشيطان أكثر من الملائكة الذين يطوفون بسذاجة حول رؤوس الأطفال الأبرياء.”108 فإنه كان في نظر سعاد جبانا وعاجزا عن عيش تجربة الحب التي تعتمل في أعماقه وتزلزل كيانه مخلفة اهتزازات مؤلمة تعذبه باستمرار. كان ضعيفا وهو يستبطن حبه الدفين تجاه أمه، الشيء الذي أصابه بنوع من الصد العاطفي والجنسي، أي عدم قدرته على التحرر من اجتياف حب الأم الذي حال بينه وبين سعاد كحرام/طابو لا يمكن لمسه والتفاعل معه جسديا. لذلك عاش عذابه النفسي والفكري في حضن “شمس الصباح” الفتاة التي أنقذها من وكر الدعارة استجابة لصورة الأم كمكبوت دفين. فكانت في نظرته ونفسيته العميقة رمزا تعويضيا لدلالة فقدان الأم. وأسكنها قلعة المتعة واللذة والقمار. لكن التغيير الذي عاشه بعد الطوفان دفعه الى اغتصاب عذريتها متخلصا من عقدة الحب الأمومي الذي حال بينه وبين عيش الحب بصورة شاملة. ” تنظر شمس الصباح اليّ غير مصدقة، لا تستطيع الاعتراف بأنني لست الشخص الذي كنته، لكنها تبقى المرأة الأكثر قربا مني، منحتني في لحظات احتضانها تلك الرائحة المفقودة لأمي، بعد تصديق أنها أمي.” لكن أمام فقدان معنى الطوفان، معنى الحياة، اهتزت نفسية حنا، وطاردته حرقة الأسئلة بوصفها مراجعة نقدية لكل حياته الماضية ولشخصيته. لهذا تغير تعامله ونظرته لشمس الصباح ” تركتني أفتض بكارتها… قالت كم أحبتني، كم انتظرت هذه اللحظة، ولم أقل لها كم أنا فاسد، أفسدت حياتها للأبد، حولتها من أم الى عاهرة. قد لا تكون عاهرة ولكنها ليست قديسة كما كانت ولم تعد أمي. قتلت أمي. ما أصعب أن تقتل أمك.”37 هكذا تتضح لنا شخصية حنا التي جعلته جبانا في علاقته العاطفية مع سعاد التي تركها تتألم وتعاني حبا مستحيلا. حاولت بكل الطرق الممكنة مساعدته على التحرر من العبء الثقيل الذي خلفه الفقدان الرهيب للعائلة، خاصة الأم مما أفقده الطمأنينة القاعدية التي يحتاجها كل إنسان في تاريخه الفردي والشخصي والعلائقي والمجتمعي. لكن باءت كل محاولاتها بالفشل” في أخر زيارة له قبل الطوفان بشهرين أعادت تذكيره بأن يتعاطى معها كامرأة وعاشقة مهزومة، لا تعنيها المبررات الأخلاقية، والخوف من الطائفة. كانت تحدثه بلهجة قاسية، تخاف أن يمتلك الشجاعة ويتقدم نحوها، يمسكها من شعرها بقوة، ويطرحها على السرير، ويلجها دون استئذان، كانت تفكر بأّنها لن تقاومه، ستستسلم لأصابعه الرقيقة التي تعشقها، لكنه كان يقف أمامها مسلوب الإرادة، يشعر بلذة حين ترفع صوتها في وجهه، وتوجه له الإهانات، وتتحدث عن جبنه، ينتشي حين تصل الى الحديث عن شجاعة وليم عيسى الذي قام بالفعل الخارق.“21 هذه المعطيات تسمح لنا بفهم هذا الحب المرضي، بينهما، الذي تنقصه الإرادة الحرة المستقلة القادرة على التحكم بزمام مصيرها وتحديد نمط حياتها في القدرة على عيش الحب بشكل صحي إيجابي، بدلا من اجترار لعنة الألم وما ينتج عنها من عذابات لهما معا. لم يكن حنا يحمل مقدارا من الاحترام والتقدير للمرأة التي كانت في نظره مجرد دنس ومتعة عابرة. لم يكن في مستوى جرأة سعاد في التعبير عن حبها وقناعاتها بمعزل عن كل الاكراهات والتقاليد والرؤى المجتمعية ذات النظرة السلبية الاحتقارية للمرأة الحرة المستقلة التي تتمرد على القيود، وتنتهك الطابوهات، وتخرق المحظور. عملت المستحيل من أجل نجاح علاقة الحب بين وليم عيسى وعائشة المفتي. شجعتها على منح وليم عذريتها دون خوف من سطوة المجتمع اجتماعيا وثقافيا ودينيا في إلغاء كينونة المرأة واختزالها في العذرية والعفة التي تورث ازدواجا وانفصاما في شخصية المرأة. ” شجعت عائشة المفتي على فقدان عذريتها، همست لها بأنه لا أحد جديرا بمنحه هذا الشرف سوى الرجل الذي نحبه. وحين سألتها عائشة المفتي: هل فعلت ذلك؟ قالت بأسى: إن من أحببته كان جبانا وهرب من الحب”80. سعاد تحدت تاريخا عريقا من التسلط الذكوري المتجذر في النص الديني، وفي التصورات والمعتقدات التي تقلل من شأن وقيمة المرأة، وتتحكم في لباسها وتفكيرها وطموحاتها. وتبخس حقوقها بصورة تمييزية الى درجة التعامل معها كشيء، دون السماح لها بأن تكون ذاتا حرة مستقلة في اختياراتها ومواقفها وعلاقاتها. حيث تم تسييجها وتقييدها بمجموعة من الأدوار والوظائف. هكذا رفضت سعاد مجموعة من الرجال الذي تقدموا لخطبتها، كما رفضت أية وصاية عليها، خاصة حين تدخلت عمتها أمينة في حريتها وهي تهددها بالتكفير والقتل والسفور اللاأخلاقي، وبالتشويه لصورتها كامرأة متحررة من الحجاب، متسامحة مع نفسها والآخرين، في تعاملها مع باقي الطوائف والديانات. فقد اتخذت أصدقاء لها من مختلف الديانات. ” تجاهلت باقي نساء العائلة، ولم تكترث لانتقاداتهن التي تصفها بامرأة عديمة الشرف تجالس الغرباء، وتفاخر بصداقتها مع المسيحيين واليهود، والفتيات السافرات.“28 ولم تكن تشعر بأي نقص وهي تعيش حياتها بشكل مستقل في التعبير عن مواقفها وأفكارها ومشاعرها. لذلك كان طبيعيا أن تحاسب نفسها نقديا في علاقتها بحنا. “ فكرت بأن الحب الصامت يعيش وحيدا كطفل ضليل، وأعمى، شعرت بنفسها تقع في هاوية الشفقة التي تحاشتها طوال عمرها… قالت له سعاد دون مواربة إنه جاحد، وأناني، وغير جدير بالحب” 60 و 61
ما كان لست حسنية، التي تحتقر وتشتم علنا رجال الدين المنافقين، أن تدرك حجم الألم الذي كانت سعاد تعانيه الى حد الموت، إلا لأنها مرت بتجربة زواج فاشلة انتهت بالطلاق من ابن عمها موظف الأوقاف. ” وصفت حياتها معه بالخراء. لم يجرؤ الشيخ الفاضل على التمسك بها. اتهمته بحب الصبيان.” 65 لهذا تفاعلت مع سعاد حين رأتها تتألم بسبب خطئها في أنها أحبت رجلا يعشق العاهرات. ويخشى انتهاك المحرم، خاصة وأن عائلة سعاد احتضنته كطفل مسيحي هارب من مجازر العثمانيين. فهو يرى نفسه واحدا من أبناء البيازيدي. وبالتالي لا يمكنه حسب تفكيره المس بالحرمات ونسيان الفضل والجميل، والرعاية والمحبة والحنان الذي شملته به العائلة. “ يشرد حنا وحيدا مستعيدا صورة سعاد التي تمنعه من تركيب صورته كعاشق، استسلم لفكرة العيب وخيانة تاريخ العائلة التي ربته كفرد منها، استقرت صورتها أختا له، محرمة، ولا يجوز حتى في أحلام اليقظة التفكير في نهديها الطافحين ورائحتها.”97
لهذه الاعتبارات والمسوغات كانت علاقة الحب بين سعاد وحنا فاشلة. تجارب كل من سعاد والست حسنية أثبتت فيها المرأة قدرتها على تخطي كل هذه المبررات الواهية والمثقلة بالأكاذيب والطابوهات الزائفة. كما بينت لنا استعداد المرأة على المضي قدما دون خوف من الانتماءات الطائفية والدينية، ولا من القيم الثقافية والاجتماعية التقليدية التي تمارس الحجر والوصاية الى حد القهر وهدر كيان المرأة الإنساني، ووأد أحلامها ومشروعها الوجودي في الحياة. وفي سياق هذا الصراع ضد المجتمع الأبوي الذكوري، والتسلط الديني والسياسي العثماني، يمكننا فهم روعة ومأساة تجربة الحب لكل من عائشة المفتي ووليم عيسى.
عائشة المفتي ووليم عيسى
“شعر وليم بأن عائشة لن تكون عابرة سبيل في حياته، وهي شعرت بأنها تورطت في قصة من الصعب التكهن بنهايتها.” 72
لم تكن عائشة المفتي فتاة عادية خنوعة وجاهلة، بل كانت متعلمة وتملك تجربة كافية في علاقتها مع ذاتها والأخر والعالم. اكتسبت تجربتها بفضل المعرفة والتعرف على الحضارة الغربية التي جعلتها تدرك تخلف الاحتلال العثمانيّ، وتكريسه للرؤى السياسية والدينية التقليدية التي تخدم تأبيد سيطرته واحتلاله. لهذا عملت عائشة على جبهات كثيرة التعليمية والاصلاحية والصحافية دعما لحقوق المرأة والتغيير. وسببت لأبيها متاعب كبيرة بسبب انتقادات المحيط المجتمعي الذي يسطير على وعيه رجال الدين ” كان أبوها يشعر بالفخر… كان إخوته ينتقدونه ويحدثونه في تفاصيل الحكايات التي يثرثر بها سكان المدينة، عن فلتان ابنته، وعلاقاته مع جماعة عبد الرحمن كواكبي والملحدين والكفار الذين ارتفعت أصواتهم في الآونة الأخيرة، الى درجة تشكيكهم ومطالبتهم بإصلاح الدين نفسه.” 82
يمكن اعتبار علاقة الحب التي جمعت بين عائشة المفتي الفتاة المسلمة الواعية والمثقفة، ووليم عيسى المسيحي المثقف الفنان، نموذجا حيا لعلاقة حب حقيقي تفاعلت فيه جميع العناصر الذاتية العاطفية والجنسية، بنوع من التكافؤ في الإرادة والاختيار واستقلالية القرار، مع التقدير والاحترام بينهما. والتشبث بالحب مهما كان الثمن الذي ينبغي دفعه، في وجه التقاليد والطائفية والاختلاف الديني، وضد القهر الاستبدادي. “ فكرت في أعماقها بأنها تستحق هذه الشراكة، لم تفكر في اختلاف الدين بينهما قالت في أعماقها إن المغامرة تستحق ذلك لقد وجدت هدفا عظيما تعمل من أجله.” 76 ونتيجة لهذا الانسجام المبدئي والعاطفي الجنسي بينهما انطلقا معا نحو تقويض وهدم كل ما يمكن أن يقف في طريق حبهما. لهذا تحدت عائشة المفتي سطوة ورعب الضابط حكمت ضاشوالي السفاح والمتسلط. ودعم الأب ابنته على هذا الاختيار الشجاع في الهرب، وعدم الخضوع والخنوع لإرادة هذا الضبط الذي أرادها عنوة وظلما زوجة له. انتصرت عائشة للحب وهربت برفقة وليم عيسى، من خلال الدعم والمساندة والمساعدة التي قدمها لهما الأصدقاء، حنا وزكريا، سعاد وسارة، وعارف. ” السلطات اتهمت العاشقين بخدش الحياء العام والتآمر على الدولة وتواصلهما مع جمعيات سياسية تهدف لهدم منظومة الأخلاق الإسلامية… قال حنا لزكريا … إن الحجر الذي رمته عائشة المفتي ووليم عيسى كان ثقيلا وسيحرق المدينة، كثيرون استغلوا الحكاية ليثبتوا وجهة نظرهم، لم تعد عائشة المفتي تلك الفتاة اللطيفة التي أحبت صديقهما، أصبحت رمزا للتحرر والانعتاق لدى أصحاب نظرية التحرر من العثمانيين واللحاق بأوروبا، وفتاة منحلة يجب قتلها لدى أصحاب الإمبراطورية العثمانية.”87
وبالفعل النهاية كانت مأساوية ومروعة بعد أن تم البحث عنهما ومطاردتهما، ثم قتلهما رميا بالرصاص. فدفنا معا في قبرا واحد، لم يصل عليهما أحد، مثلما حدث مع ضحايا الطوفان والمجازر الدينية والسياسية.
وليم البيازيدي ومريم
” سكان القرى أحاطوا به وسألوه إن كان يحتاج الى أرض لدفن تابوته، شكرهم وليم بهزة من رأسه وتابع طريقه بعد استراحة قصيرة، كان يحتاج الى الصمت، دوما كان يعتبر أن الكلام لا يليق بالعشاق المهجورين، من الصعب إعادة تأليف الحب وروايته على الغرباء.”185
مثلما رأينا في علاقة الحب التي جمعت بين سعاد وحنا، تورطت مريم في حب وليم البيازيدي الغارق في عوالم الدعارة الجنسية مع الكثير من النساء، في صورة أقرب الى قصص زير النساء. كانت مريم كسعاد وجوزفين وشاها… ، تدرك هذا الامتياز الذكوري الذي كان يعيشه وليم كنمط حياة وأسلوب في العيش يشبع في نفسيته نوعا من الرجولة والكبرياء والتميز. بينما كانت مريم تتجرع عذابات ألم الحب الذي تكنه لوليم بكل صدق لا يخلو من قساوة المعاناة في التقرير والاختيار بين الزوج التركي المسلم أورهان الذي ترى فيه ظلا وجدارا يمنحها الأمان. وهي الفتاة المسيحية الناجية من المجازر التي ارتكبها الأتراك في حق عائلتها والأرمن بشكل عام. وبين وليم العاشق الذي كانت تعيش معه تجربة حب وفق مواصفات وخصائص البيئة والثقافة الذكورية التي تغض البصر وتسامح زلات وأخطاء وتجاوزات العاشق. هكذا كانت تعذبها محنتها في الحياة كناجية من المجزرة، بنفسية مشحونة بالكآبة. “لا يكفي نجاتك لتكون محظوظا بل تشعر بعطب حقيقي، لا ينجو منك أي شيء رغم أنك تتنفس وتأكل وتشرب، إنها رحلة تيه لا يمكن تقدير ألمها كما لا يمكن تلخيصها أو الحديث عنها بخفة.”156 وكمرمية في الدير تحلم بوهم الأمان مع رجل تركي تعذبه عقدة الذنب والجريمة التي ارتكبها بنو جلدته في حق الأرمن. فاضطرت الى التخلي عن وليم، وتركه يعاني ألم الهجر والفراق. والغريب في الأمر أن سعاد هي التي حرضتها على هذا الاختيار، بعد أن لمست في عذاباتها العميقة حجم القلق والألم الذي يعشش في ذاكرتها، ولا يكف عن تذكيرها من حين لآخر بالمأساة التي عاشها الأرمن.
وانعكس هذا الهجر بصورة سلبية على حياة وليم، الذي وجد نفسه غارقة في المتعة واللذة والخمر، والقصص الزائفة رفقة صديقه بسام. مما دفعه الى السخط على ماضيه كعاشق منبوذ، متروك للتيه والضياع. ” لم يعد يرغب صورته القديمة كعاشق بائس تهجره من أجل رجل تصفه سعاد بالرجل النيئ التافه الذي لا طعم له.”165 هكذا كانت حياتهما معا محفوفة بالآلام والعذابات، والكثير من الخسارات، وهما يتجهان معا نحو التلاشي والتفكير في الموت. “ شعرت بحزن شديد لصورة ملاكها-وليم- الذي يبدو فيها رجلا مهزوما يبحث عن الموت… غيابها عنه لمدة سنة كاملة دون أي سبب كان قاسيا، في هذه اللحظة شعرت بأنها تحبه الى درجة العبادة، لكنها أفسدت كل شيء، لا تريد له أن يموت قبلها، لن تستطيع احتمال فقدانه… بكت أمام سعاد التي نظرت إليها بتعاطف كبير، أخبرتها ببرود: لقد عاد الى الدير، ذهب ليموت هناك.” 186
عندما نتأمل صورة المرأة في الرواية نجدها غارقة في القهر والهدر، مغيبة في قيمتها الوجودية الإنسانية. تعيش مأساتها في ظل الامتياز الذكوري الذي يسمح للرجل بعيش مغامرات المتعة واللذة، والعلاقات الجنسية والعاطفية العابرة. دون أن ترى المرأة في ذلك ما يمس الحب الحقيقي ، حيث تعيش الوفاء للرجل وخيانة جسدها ونفسها وفكرها وحريتها واستقلالها وكرامتها. بل تحلم بعشق جنوني تجاه هذا الرجل الغارق في أحضان العاهرات. لقد وضعت المرأة في مواقف مختلفة بين الهدر الذاتي الى حد الاستيلاب الإيديولوجي كما هو الشأن عند العمة أمينة التي كانت يدا من حديد تكفر وتحلل القتل باسم الدين. كما رأينا المرأة المتمردة ذات المواقف الجريئة مثل سعاد وعائشة المفتي والست حسنية. إلا أن هناك حالات مؤلمة في غاية البشاعة، حيث المرأة تقايض من أجل البقاء ببيع لحمها الحي، كرامتها. ” سارة التي لم تحتمل الجوع وشردت مع راعي غنم قابلته خارجا من باب المنزل العمومي، راودته عن نفسها مقابل وجبتي غذاء، واحدة لها والأخرى لأمها المريضة. “144
لقد عرفت كل شخصيات الرواية نهاية مأساوية، كما لو أنها تعيش أقدارا تراجيدية تتجاوز شروطها الذاتية في المواجهة والصراع. وهذا ما عاشه كل من ديفيد وعازار وزكريا الذي ” لم ينتبه الى نفسه يبكي بحرقة، فكر بقتل نفسه كان ممتلئا بالآثام أيضا لم ينس تلك الليلة التي أغوى فيها إيفون.” 162
الهوامش
خالد خليفة لم يصل عليهم أحد هاشيت أنطوان 2019
نشرت على Middle East Online هنا