أحد عشر سؤالاً مؤجَّلاً لخالد خليفة

في شباط (فبراير) 2016، دُعيَ خالد خليفة إلى ندوة في جامعة ديوك في ولاية نورث كارولاينا تحت عنوان «أن تكتب رواية وبلدك ينهار». كانت سوريا في عامها الرابع على الثورة، ولم يكن الأمل قد تبدّد بعد. وكانت روايته «الموت عمل شاق» قد صدرت للتوّ، والترجمة الإنجليزية المبتورة لـ«مديح الكراهية» قد أثارت موجةً من الأسئلة في الحقلين الأكاديمي والأدبي في أميركا. كان من المفترض أن أقوم بحوار معه، آملةً في الغوص في مسيرته الروائية، كما في علاقته مع بلاده التي رفض أن يتركها، وصولاً إلى مساهمته في ما سُمّي حقاً أو جزافاً «رواية الحرب». لم تتسنّ لنا فرصة الحوار آنذاك، إلا أني أعود إلى الأسئلة في لحظة غيابه، أسئلة لن يجيب عليها ولكنها قد تفتح باباً لمزيد من التعرّف إلى أعماله والتفاعل المتجدّد معها.

كيف أصبحت كاتباً؟

  1. في نصك الذاتي البحث عن ساحة للتحرير (2016) تتحدّث عن ساحة سعد الله الجابري في حلب، كمساحة تشكّل فيها وعيُكَ السياسي، فيما كنت تُستدعى، كما الآلاف من طلاب المدارس، لحضور مسيرات تأييد لحافظ الأسد. احكِ لنا أكثر عن هذا الوعي السياسي الذي نشأ على تقاطع العمران الحداثي الذي طبع تلك الساحة مع ممارسات نظام الأسد الشمولية التي استحوذت عليها. ماذا رأيت في هذه الساحة ولماذا أصريت أن تعود إليها؟
  2. كيف تقرأ اليوم الحقل الأدبي الحلبي في مرحلة الثمانينيات والتسعينيات، تحديداً على أعقاب ما سُمّي بـ«الأحداث» في حماه وحمص وحلب؟ ما هي الجماعات الأدبية، التي وجدت مكاناً فيها في ظل القمع الثقافي والسياسي؟
  3. انتقلتَ إلى عالم الرواية عن طريق كتابة سيناريوهات للمسلسلات، أي أنك لم تتمثّل بنمط الروائي الذي غالباً ما استمدّ مكانته وشرعيته من داخل التنظيم السياسي أو النشر الثقافي. وكأن مسيرتك تقول إنّه يمكن للكتابة الأدبية أن تتناول سرديات تاريخية كبرى، وأن تُمتِّع، من دون أن تكون نابعة بالضرورة من سلالة روائية أو بنى فكرية مكرّسة. ومع ذلك، تقول إنك حافظت على صلة الوصل مع جيل سابق من الأدباء. ماذا ألهمك من تركَتِهم وعمّا تخلّيت؟ 

كيف تسرد العنف؟

  1. في رواياتك تشكيك بالسرديات الكبرى والتطرق للقمع السياسي وتراجيديا الإبادة من باب السرديات الصغرى، أي من خلال النظر في الممارسات الاعتيادية، اليومية، والمُعاشة. ماذا يلهمك في الاعتيادي وأين ترى السياسي فيه؟ 
  2. تضع الحواس في صلب تلك السرديات الاعتيادية: المأكولات، البهارات، العطور، الأقمشة. كيف ترى الحواس مكمناً للسرد الأدبي والقول السياسي؟
  3. تتناول في «الموت عمل شاق» موت أب من جيل الستينيات، كان قد آمن بالتحرر وعمل في سبيله. نرى أولاده المهزومين الثلاثة ينقلون أباهم، بمشقة وإذلال، عبر الحواجز الأمنية التي يحرسها ثوار وعساكر نظاميون، ليُدفن جثةً متحللة. ما معنى أن يتحوّل الأب الذي جاء إلينا من زمن التحرّر الذي تقوده الأنظمة، جثة متفسخة مقزّزة؟
  4. تبدو رواياتك، لا سيّما مديح الكراهية ولا سكاكين في مطابخ هذه المدينة وكأنها تنظّر للكراهية كشعور جمعي وسياسي. فنرى الكراهية كممارسة في التطهّر، الكراهية كدليل على تفسّخ الحب، الكراهية كممارسة في وأد الذات، والكراهية كشعور ينظّم علاقتنا مع الآخر والنظام معاً. وكأن الكراهية، كما تراها، هي أداة معرفية تنظّم حولها شخصيات رواياتك؟

وأين السلطة من كل ذلك؟

  1. هناك تراث فكري عربي يرى في منفى المثقف حالة تراجيدية ولكن خصبة في قدرتها على إعلاء حس نقدي منسحب من الهويات الحزبية والقبلية وغيرها من الروابط التي تحدّ من الرؤيا. ولكنّك تقول في مقابلاتك إنك إن خُيِّرت بين أن تكون حراً في المنفى وأن تكون صامتاً في بلدك، فإنك ستختار الصمت في بلدك، وذلك في أوج النقاش المحتدم بين سوريّي المنافي وسوريّي الداخل، فبقيت في سوريا حتى اليوم باستثناء هذه الزيارة الطويلة في أميركا. اختار عدد من الكتاب السوريين في المراحل السابقة الصمت على خيار المنفى، ولكن يبدو وكأنك تضيف على موقفهم اليوم أنّ على الكاتب أن يأخد موقع الشاهد على المجزرة والمدوِّن لعنفها. هل تعني بذلك أن المنفى قد يفقدك شيئاً من قدرتك على السرد، على أحقيتك به؟
  2. لطالما كانت عبارة «النطق بالحق بوجه السلطة» من أركان هوية الروائي الذي يضع الالتزام السياسي في صلب أعماله. ولكنك في مقابلاتك وذكرياتك الشخصية، تتحدّث كثيراً عن «اللعب مع السلطة»، الرقابة تحديداً، كمهارة تعطي الأولوية لمنطق المناورة والمشي على حبل قد يراه الجميع واهناً فيما يبدو لك شديد المرونة، فتظهر كيف يمكن للكتابة أن تكون ممارسة في اللعب ومحاولات في النجاة معاً. وكأنك بذلك تجترح نمطاً جديداً لكاتب يراقب ويناور، وفي يديه سجلّ للخسارات. هل لا تزال المناورة مع النظام ممكنة اليوم؟

ما ثمن أن تصبح كاتباً عالمياً؟

  1. أثارت الترجمة الإنجليزية لـ«مديح الكراهية» استنكارات وعدداً من الأسئلة حول ارتحال النصوص الأدبية العربية و«عالمية» الكاتب العربي. فالنسخة المترجمة للرواية حَذَفت تماماً الفصل الأخير من الرواية العربية، وهو الفصل الذي تنبذ الراوية فيه ماضيها مع التنظيم الإسلامي، وتخلع الحجاب، وتنتقل إلى بريطانيا. فانتهى السرد في الترجمة الإنجليزية على شرط بقاء الراوية في ملكوت الكراهية والإجرام. تصف النيويورك تايمز الرواية على أنها «حكاية بلزاكية مليئة بالرومانسية والإجرام، من أفغانستان إلى اليمن، وصولاً إلى سوريا»، كما أن غلاف الترجمة يحيل إلى جميع عناصر التمثيل الاستشراقي للأدب العربي (أرض صحراوية قاحلة، امرأة لا نرى من حجابها سوى عينيها الراغبتين، الأسيرتين). كيف عشت تلك التجربة مع أولى رواياتك المترجمة؟ وكيف يكون الأدب العربي عالمياً على وقع ممارسات في الترجمة ترى في بتر النص والتنميط الاستشراقي سوقاً وعائداً مادياً؟
  2. كيف تقرأ الاهتمام العالمي بالأدب السوري في هذا السياق؟ هل من مفرّ من مقاربة ترجمة الرواية السورية في زمن الكارثة خارج منطق التمثيل والتوثيق؟

****

لم نسمع إجابات خالد خليفة على تلك الأسئلة. إلا أن الكاتب مشى يومها بين الأساتذة والطلاب، ببنطلون جينز، وحذاء كاوتشوكي، فيما تسرّب من سحاب جاكيتته الرياضية شعر صدره الرمادي. كان يستمتع بالأكل والدخان ويبشِّر بالملذات، فيما تحلّق حوله طلاب سوريون، وأصدقاء -دائماً حوله أصدقاء- وضحكته تدوي. كان يشكو بُعدَه عن أحبابه في الشام ويعد بالعودة إلى البلاد التي يدرك أن لا ملاذ له دونها، ولو تطلّب ذلك ابتكارات في لعبة الصمت والكلام.

نشرت على موقع الجمهورية هنا

المصدر
الجمهورية
زر الذهاب إلى الأعلى