خالد خليفة الروائي الذي حلم بمطابخ من غير سكاكين

الكتابة أوّلا عند خالد خليفة الذي كان كمَن يفاجئ نفسه بوقائع وشخصيات لم يفكر بها قبل أن تقع أو تحضر.

قبل سنتين اتصل بي صديقي الشاعر بشير البكري وأخبرني أنهم ينتظروني في “بايلوت”، الحانة التي لا تبعد عن بيتي أكثر من عشرين مترا. قال لي “أنا وصموئيل شمعون وخالد خليفة في انتظارك”. ولأني كنت في فترة نقاهة بعد أن أجريت عملية لعيني فقد اعتذرت. اليوم أشعر بندم شديد لأنني لن أرى الروائي السوري خالد خليفة مرة أخرى لأن الموت خطفه.

يسخر المرء أحيانا من الموت فيعتبره “عملا شاقا” حسب تعبير خليفة، ولكن تلك السخرية المريرة لا تغيّر في المعادلات شيئا. سيكون علينا أن نعترف أنّ ما نعرفه عن الحياة أقل ممّا نعرفه عن الموت بالرغم من أننا لا نعرف شيئا عن الموت.

في مقاومة العدم

عاش خالد خليفة سنوات في توقع موته في مدينة مهددة بأن تختفي. أما لماذا لم يغادرها وهو الذي كان يتنقل بين بلاد الدنيا فلأنه يُشبّه نفسه بالسمكة التي إن أُخرجت من المياه تموت ودمشق هي مياهه.

“لا سكاكين في مطابخ المدينة” روايته التي نال بسببها جائزة نجيب محفوظ. كان يمنّي النفس فيها ألاّ تكون هناك سكاكين.

ولكنّ شيئا من فكاهته لم ينتقل إلى الواقع. كانت هناك دائما فكاهة سوداء حسب تعبير السرياليين هي ما صنعت طابعا لسخريتهم التي غالبا ما تنتهي بالموت. وما من موت سعيد بالنسبة إلى سوري مرهف وحساس ومتعفف مثل خالد خليفة.

“ما الذي يفعله الفنان في الأوقات العصيبة؟” كان الجواب بالنسبة إلى روائي مثل خليفة هو مزيج من المرئيات والمرويات والذكريات والأوهام والكوابيس التي لا تغادر الأسرة. لقد فوجئ السوريون بما انتهوا إليه من حياة شبحية. كان خالد خليفة يمد يده إلى الغبار ليصنع منه حياة لأناس سبق له أن شاركهم لعبتهم في مقاومة العدم.

قال كلمته ومضى

ولد خالد خليفة عام 1964 في قرية أورم الصغرى بحلب شمالي سوريا. عام 1988 أنهى دراسته للحقوق في جامعة دمشق غير أنه اختط لنفسه مسارا مهنيا مختلفا حين اتجه إلى الأدب. وكانت روايته “حارس الخديعة” التي صدرت عام 1993 أولى خطواته في ذلك المسار. شهد عام 2000 بداية موازية لخليفة حين اتجه إلى كتابة الدراما التلفزيونية وهو المجال الذي انفتح فيه الكاتب على الجمهور الواسع. كان عمله التلفزيوني الأول هو “سيرة آل الجلالي”. وفي تلك السنة نشر روايته الثانية “دفاتر القرباط”.

عام 2006 نشر روايته “مديح الكراهية” التي تناول فيها التاريخ السياسي بين عقدي السبعينات والثمانينات. وهي الرواية التي تم منعها من التداول بعد أشهر قليلة من صدورها.

أما روايته الأشهر “لا سكاكين في مطابخ المدينة” فقد صدرت عام 2013. في سنة صدورها نالت الرواية جائزة نجيب محفوظ التي تمنحها الجامعة الأميركية بالقاهرة.

غلاف الطبعة العربية – لا سكاكين في مطابخ هذه المدينة
غلاف الطبعة العربية – الموت عمل شاق

بعدها كتب “الموت عمل شاق” وهي حديث طويل عن الموت المجاني الذي صار السوريون يعيشون فصوله بسبب الحرب الداخلية. ليكمله في روايته الأخيرة “لم يصلّ عليهم أحد” التي صدرت عام 2019.

من الأعمال الدرامية التي كتبها خليفة نذكر “ظل امرأة” عام 2007 و”العرّاب” عام 2016.

في صنيعه الأدبي أجاب على واحد من أكثر الأسئلة التي تتعلق بالالتزام تعقيدا “ما الذي يفعله الأدب في الأوقات العصيبة؟”.

سيُقال إنه قال كلمته ومضى. وكلمته تلك انبعثت من الحياة الحية المباشرة ولم يتم استيرادها من الخارج. عاش خليفة فصول الحرب كلها  بكل تفاصيلها. لم يغادر سوريا من غير عودة. زار حلب بعد أن دُمّرت بعد أن كان ممتنعا عن مشاهدة مقاطع الفيديو والصور التي يتم بثها طوال الوقت والتي توثق الدمار الذي لحق بالمدينة. قال “كل أماكن طفولتي دُمّرت أو كادت تُدمّر. بعد عودتي إلى منزلي في اللاذقية بقيت لأكثر من أربعة أيام أبكي”.

الأدب مهنة شاقة

“أنا أعرف السجن من غير أن أدخله كأصدقائي الذين انتظرتهم”. يقول خليفة وهو يشير إلى حقائق جارحة في حياته وهي الحقائق التي استلهم منها موضوعاته الروائية ولا أقول حكاياته بالرغم من أن رواياته تميزت بطابع حكائي من طراز رفيع.

لم يدخل السجن غير أنه يعرفه. وهو إذ انتظر خروج أصدقائه من معتقلاتهم فليس من أجل أن يستمع إلى رواياتهم بل لأسباب إنسانية، ستنبض أعماله الأدبية بها وستكون ساحة لصورها التي هي عبارة عن طبقات تاريخية، اهتم خليفة بتفكيكها وعرض أحوالها في المسلسلات التلفزيونية كما في رواياته بالرغم من أنه أنكر غير مرة بأن رواياته ذات بعد تاريخي. لم يرغب في الانتساب إلى سلالة يقودها جرجي زيدان ومنها أتى أمين معلوف.

هو ابن الحاضر الدموي الذي كان يصرّ على أن الوقت لا يسمح بترف العودة إلى الماضي. كانت الأحداث قد سبقت الجميع ومعهم الزمن وهو لا يريد لرواياته أن تكون مجرد محاولات لتوثيق ما جرى في عصره. كان الأدب مهنته وهو يعرف أنها كالموت مهنة شاقة لذلك فضّل أن يضع مسافة بين رواياته والواقع.

الكتابة أولا

“ترتكز حياتي وتتوقف على الكتابة ولا أعرف أصلا القيام بأي شيء آخر، وأراني محظوظا لأنني لا أجيد أي شيء غير الكتابة، وهي الوسيلة الأكثر عمقا للتعبير عن ذاتي. وبالتالي التعبير عن العالم” يقول خليفة. لذلك فإنه غالبا ما كان يبدأ بكتابة رواياته من غير تفكير مسبق بموضوعاتها.

يقول “عادة ما أكتب من غير أفكار مسبقة، بالطبع لا بد أن يتبادر الموضوع إلى ذهني ولكنه يبقى غائما. عندما أنتهي من كتابة الصفحات الأولى أشعر بأنني ملكت خيوط روايتي. فالصفحات الأولى وهي ليست سوى صفحات ثلاث أو أربع فقط هي ما يقلقني في كتابة الرواية. بعدها تأتي الأشياء من تلقاء ذاتها. وغالبا الشخصيات التي لم تكن واردة في ذهني هي من يحوّل مسار الرواية”.

الكتابة أوّلا. تلك طريقة غريبة في إقامة أبنية روائية ذات طابع تاريخي واجتماعي. كان خالد خليفة كمَن يفاجئ نفسه بوقائع وشخصيات لم يفكر بها قبل أن تقع أو تحضر. ذلك هو مصدر التدفق في استحضار ما لم يكن الروائي يتوقع أنه قادر على استحضاره. يكمن السر في تلك العلاقة الحميمية التي أقامها خليفة ما بين لجوئه إلى الكتابة حلاّ وجوديا وبين واقع شعر أنه في طريقه إلى الاحتضار.

الموت مناسبة للتعبير عن الحب

كشفت المرثيات الكثيرة التي كتبها أصدقاء خالد خليفة ومعارفه بعد موته كم كان شخصية محبوبة. كان الإنسان حاضرا في تلك المرثيات قبل الروائي الذي لم يغب ولم يتم وضعه جانبا أو تهميشه. وكما أرى فإن إنسانية الكاتب لا تنازعه على أهمية ما كتب.

لقد كتب خالد خليفة رواياته في مرحلة حرجة من تاريخ بلاده. ولم تكن رواياته بعيدة عن ذلك النزاع الذي اتخذ طابعا سياسيا غير أنه في حقيقته كان نزاعا تاريخيا بين الشعب والسلطة وهو ما تجلى في أبشع صوره من خلال الحرب الذي دمّرت أجزاء كثيرة من سوريا.

خالد خليفة هو بالنسبة إلى السوريين أيقونة خوفهم وشجاعتهم في الوقت نفسه.

نشرت على موقع صحيفة العرب هنا والنسخة المطبوعة هنا

المصدر
العرب
زر الذهاب إلى الأعلى