تورطتُ بإرسال النص الأول إلى مجلة جديدة اسمها “ألف”، لا أعرف من فريقها سوى القاص والناشر سحبان السواح، الذي كان ينتظرني هناك في مقهى الهافانا وبصحبته خالد خليفة، ليبلغني بالموافقة على نشر النص، ولكن شرط أن أعدّل فيه.
تكفل خالد بشرح ملاحظات هيئة التحرير، فوافقت رغم نزق طبيعي تحملهُ عقول من يخوضون تجاربهم الأولى حين يعتدّون بكل حرف وفاصلة ونقطة فيما يكتبون!
رهبة البدايات أمكنني تجاوزها، لكن رهبة الحديث عن رحيل صديق عايشت تجربته، بكل ما فيها من نجاحات وإخفاقات، ومواقف وعجز وصمت، تظل حاضرة مع كل نأمة تُسجل هنا!
حدث اللقاء الأول مع خالد في عام 1990، ورغم أن مجموعة ألف انتمت بغالبيتها إلى حيز الثمانينيات، إلا أن مخاض تجارب أفرادها لم يكن بعيداً من الناحية الزمنية عن أولئك الذين نشروا في التسعينيات، ويمكن اعتبار تجربة هذه المجلة مطبخاً جرى فيه تحضير وجبات مهجنة، لم تلق كلها الترحيب، ولم يكرس جميع من ساهم فيها، رغم أنها جمعت محاولات أدبية جاءت من بيئات سورية مختلفة، فقد جاء خالد ولقمان ديركي من تجربة ملتقى حلب الجامعي، وجاء آخرون من الساحل السوري، ومن حمص والرقة وغيرها، لكنها، رغم ذلك كانت أهم تجمع أدبي ظهر في سوريا التي يحكمها حافظ الأسد، ومن حوله جوقة كاملة من البعثيين والطفيليين الذين صادروا الحياة العامة، وبما فيها قدرة الأجيال الشابة على إنتاج نصوص تمثلها.
خلق خالد خليفة تجربته في هذا الفضاء، وفي بيئة تفرض على المرء مواجهة الخوف من الرقابة ومن خلفها الأجهزة الأمنية، والكراهية من قبل شخصيات “ديناصورية” لا ترغب بأن تزيح ولو قليلاً لتفسح المجال لغيرها، والبغض من قبل الذين لا يعترفون بالحداثة ولا يرحبون بالتجريب، والحسد من قبل الزملاء أنفسهم إن أصابه قليل من النجاح!
فلا يجد الشاب الممتلئ بأحلامه إلا أن يصاب بأعراض تأتيه من النزق العام، فيسعى لئلا تغمره الانتهازية، وفي نفس الوقت ألا تغرز الطهرانية المسامير المكبلة بقدميه، وألا ينساق إلى الغوغائية وغياب البصيرة، وألا تصبح “الحربقة” منهجه في الحياة!
على أرضية كل ما سبق كان على خالد خليفة كأحد أفراد هذا الجيل أن ينتجوا الإبداع وأن يعملوا من أجل الرزق، وأن يمشوا على حبل رخو يفصل بين أن يصبحوا أبناءً للنظام، وبين أن يحافظوا على اختلافهم عن السائد المحلي.
لم يتحول أفراد المجموعة الذين قدمتهم مجلة ألف إلى أصدقاء دائمين، بل مضت علاقاتهم الشخصية البينية، في مسارات السوريين أنفسهم، ولم يكن من الصعب أن يحاول البعض النجاة أخلاقياً من التورط في لعبة السلطة والمال، والتوجه صوب منافذ مختلفة أتت بها فورة الإنتاج الدرامي في سوريا التسعينيات، لكنها فرضت أيضاً جهداً أكبر قوامه ألا يرتهن الكاتب لشركات الإنتاج التلفزيونية التي حاولت امتطاء شخصية المثقف واستغلاله لغاياتها التسويقية الربحية، حتى وإن كانت التكلفة هي قلة الموارد والعيش تحت طائلة العوز.
كل هذا يحدث على المستوى الشخصي، في إطار حالة سياسية رجراجة، تكتنفها آمال وطموحات بحدوث التغيير السياسي الذي ينقل البلد من حال إلى آخر!
في هذا الفضاء صقل خالد خليفة عالمه، أو لنقل مركبه، وأوجد فيه دائماً أمكنة لأصدقائه.
لا يمكن تذكر خالد الروائي دون أن نحلل الظرف الإبداعي السوري العام، ولاسيما البيئة المغلقة على نمط متخم بالأيديولوجيا، وبالنمطية، وبالتجارب المكرسة، وفي هذا المسار تحمل التجربة المختلفة طزاجتها، حتى وإن كانت تتماهى مع المختلف المكرس عالمياً، وهي في المحصلة ستصل إلى عتبتها الخاصة، وهذا ما تعنيه عبارة النضوج الأسلوبي، والتي تتضمن في سلتها القدرة على الإمساك بمزاج القارئ، والاحتفاظ بالحكاية المجتمعية المسكوت عنها، والتي يمكن أن تقود الكاتب للمواجهة مع الرقابة، وهذا ما حصل فعلياً مع روايتيه “مديح الكراهية” و”لا سكاكين في مطابخ هذه المدينة”!
وفي الوقت نفسه، يتوقف المرء كثيراً عند تجربته كسيناريست درامي مع تجاربه المختلفة التي تركت أثراً مهماً كمسلسل “سيرة آل الجلالي” (2000) الذي توغل عبر حكايته في بيئة المجتمع الحلبي المخترق بفساد المال والسلطة، وأيضاً في مسلسلات رؤيوية لاحقة حاول من خلالها سرد حكاية جيله نفسه كمسلسل “حروف يكتبها المطر” (2003) و”زمن الخوف” (2007).
وربما لو كانت البيئة السينمائية السورية ناشطة، لكانت الفرصة متاحة لخالد أن ينتج مادة سينمائية مختلفة عن تلك التي قدمها مع المخرج محمد ملص في فيلم “باب المقام” الذي جرى حوله سجال طويل، اتهم فيه خالد مخرج الفيلم بالاستيلاء على حقوقه ككاتب سيناريو، وذهب من أجل ذلك بالقضية إلى المحكمة.
لكن فضاء الشاشة الكبيرة كان مفتوحاً أمامه من خلال العمل في الأفلام الوثائقية، حيث نزل مع المخرج نضال الدبس في فيلم “حجر أسود” (2006) إلى قاع أطراف المدينة المخفي الذي لم يلحظه مخرجو الدراما، ولم يقتربوا منه حتى في أصدق تجارب دراما بيئة المخالفات الدمشقية.
لم يتوقع من عرفوا خالد الذي حلم بالتغيير أن يخالف طموحات السوريين الثائرين ضد نظام بشار الأسد، فوقف معهم، ودون الخوض في تفاصيل كثيرة جرت في العام 2011، ستبدأ سنة 2012 بمشاهد دموية ومنها اغتيال الموسيقي الشاب ربيع الغزي، في شارع بغداد، وفي الجنازة هاجم عناصر أمن خالد واعتقلوه بعد أن اعتدوا عليه جسدياً، وسريعاً سيطلق سراحه، لكنه سيمنع من المغادرة ولن يكون بإمكانه أن يسافر دون الحصول على موافقة تقتضي منه مراجعة فرع الأمن الداخلي الذي يتولى ضباطه التحقيق معه!
لم ينج خالد من هوس السوريين الغاضبين بسبب الخذلان بالبحث عمن يناصرهم ويتبنى صوتهم، فسأل البعض عن غياب حلب المدمرة عن أجندته الروائية، وكان له رأي معلن في أكثر من منبر عن ضرورة أن تتم الكتابة عن التراجيديا السورية في لحظة باردة بحيث تكون الرؤية أكثر دقة وحرصاً على التفاصيل، كما أراد البعض منه أن يكون جذرياً أكثر في مناكفة سلطات الاستبداد، لكن هذا الأمر كان سيؤدي بالضرورة إلى ضريبة أكبر، أقلها أن يخسر العودة إلى دمشق! وفي آخر لقاء جرى بيننا في إسطنبول قال بأنه سيبقى يناور إلى النهاية طالما يستطيع ذلك، إذ لم ير فائدة في أن يكون لاجئاً سورياً آخر ينتظر الفرج في أحد المنافي! كما كتب ذات يوم عن تعثر النتاج الأدبي السوري الراهن، وعن غياب الأصوات الجديدة، فاختلف في ذلك مع آخرين رأوا المسألة من زاوية استحالة معرفة كل ما ينتج في كل أمكنة السوريين!
وإلى وقت كتابة هذه السطور كانت وكالة “سانا” التابعة للنظام تتجاهل خبر رحيل خالد في دمشق، بينما كان الثائرون في ساحة الكرامة في مدينة السويداء ومنذ الصباح قد رفعوا صورته وأبنوه بما يليق برجل آمن بالحرية سبيلاً لخلاص السوريين.
نشرت على المدن هنا