لماذا تركتنى للبرد يا صديقى؟

نخاف من رحلة بلبل مع أبيه في “الموت عمل شاق”، ونخاف أن نرفع الغطاء عن أوجه الموتى في طوفان حوش حنا في “لم يصل عليهم أحد”، ونقرأ بهلع ما قلته مرة “أيها الموت، لماذا أخطأتني للمرة الألف، ها أنا في مرماك، أجر الشوارع وحيداً، في شوارع فارغة إلا من جثث أحبتي”. لكن قلبك الذي تحملت خيانته مرتين، كان متعباُ في المرة الثالثة، فلم يأبه لتلك الشبكة القابعة في أوعيتك الدموية وقرر أن يقول: اكتفيت!

لم يك خالد كما غيره. فمنذ أن تعرفت عليه في العام 1984 في المدينة الجامعية في حلب، كان خارج سجون التعريفات ونمطية العلاقات. كانت عفويته لا تغطى حسه وذكاءه، وضحكاته الجميلة لا تخفى انكسار جيله. أحب الشعر وجرّبه، وشارك بأمسيات شعرية في جامعة حلب لكنه لم يجد فيه الأوكسجين الذي يناسب رئتيه. أنهى دراسة الحقوق وقطع صلته بها٫ فهي لم تكن بالنسبة إليه سوى شهادة في إطار ترضى أسرته. أدرك مع أول صفحات لروايته الأولى أنه ابن هذا الأفق الأدبـي، ليبدأ بعد عدة محاولات في بناء أول أعماله التي فاجأنا بها وهى «حارس الخديعة» لتليها رواياته الأخرى التي تسجل تطوراً بنائياً ولغوياً مدهشاً وساحراً. هذه الموهبة التي تجسدت روائياً في سيناريوهات أعمال تليفزيونية وسينمائية عديدة، منها “سيرة آل الجلالي، قوس قزح، ظل امرأة، هدوء نسبى وباب المقام”.

وما زلت أحتفظ بملاحظاتي البسيطة على نسخة روايته التي كان يستعد لنشرها «غرفة لبصاق الأم» آملاً أن نستطيع نشرها قريباً.

كان خالد يدهشنا دومـا بتلك الطفولة التي تفور داخله، بينما كنا نحن أصدقاؤه المحكومون بالمعايير والمساطر نقلق وننتقد أحياناً تصرفاته الكاسرة لحدود اجتماعية بسيطة اكتشفنا بعدها أنه كان يقارب الحياة بشكل أصح، وأن من كنا نقلق من ردة أفعالهم اتجاه عفويته هم من أكثر الناس الذين أحبوه. وحتى عندما ننتقد تصرف شخص أمامه، لا يشارك بل يضحك ويقول لنا: دى اتركوه خيو.

مسالمته ومحبته كانت روحاً إيجابياً تفرض نفسها. ووفـاؤه لأصدقائه وتاريخه يجعله يَسعد باستذكار قصصٍ مرت عليها ثلاثون عاماً بيننا كأصدقاء، أكثر من الحديث عن شؤون أخرى بما فيها رواياته.

حكاية عشقه لدمشق، وعشقه لسوريا، كانت كالحديث عن تابو محرم بالنسبة إليه. فلا شيء يبعده عن الشام. لم يقبل بكل المغريات للإقامة فى بلاد الغربة التي هرب إليها مئات الآلاف من السوريين أثناء الحرب. وحتى عندما ذهب في منحةِ كتابةٍ إلى هارفارد في العام 2014، كانت دمشق تلاحقه بالحنين فاختصر إقامته وعاد قائلاً: «هذا وطني، وهذه بلادي، التي تحتضن قبر أمي. لا أريد أن أعيش في مكان آخر. لا أريد أن أخلق ذكريات جديدة».

غيابك خالد.. ليست خسارة للمكتبة العربية سنحتفى بك، ونحتفل لأجلك. والعالمية فقط، بل لجميع من أحبوك، وما أكثرهم.

39 سنة من الصداقة التي كانت دفئاً ألجأ إليه. فلماذا تركتني للبرد يا صديقي؟

نشرت على أخبار الأدب – البستان في النسخة المطبوعة

زر الذهاب إلى الأعلى