لماذا موت خالد خليفة فجيعة؟

جنازة الكاتب السوري خالد خليفة في دمشق في 2 تشرين الأول 2023. (تصوير لؤي بشارة / وكالة فرانس برس)

لأسباب كثيرة كان تعبير الفجيعة واسعاً وكبيراً مع خبر موت الروائي خالد خليفة. أظن أهمها هو فائض الحياة الذي كانه هذا الكائن الممتلئ حبوراً وحيوية. “انقصف” خالد خليفة في عز حضوره، في ذروته.

فجيعتنا به أن موته أتى تماماً كفصل صادم من رواياته، المفعمة بالتراجيديا والقسوة. بل بدا موته الغادر تذكيراً فاجراً بالمأساة السورية. ولذا، شعرنا بالرعب على نحو يفوق الحزن لحظة ذيوع خبر موته. رعب تلاشي كل شيء وخسارة أعمارنا عبثاً.
حياة خالد وموته، ليسا شخصيين. والحزن بفراقه لم يكن شخصياً فقط. نحن أمام كتابة سوريا ونصها وصوتها، سوريا الحقيقية والمتخيلة، عبر جيل بأكمله بدا أن خليفة ممثله الشرعي البارز.

في سوريا حافظ الأسد، كان هناك “ثورة” خفية عجز النظام عن قمعها أو إماتتها. فبعد مذابح مطالع الثمانينات واغتيال آخر ما تبقى من “سياسة”، كان مسرح الثقافة والأدب والفن مهيئاً على نحو مدهش ليقود المقاومة ضد الأسدية والبعثية، اللذين ما عاد بيدهما إلا خطاب الأمن والزنزانة. وكان واضحاً أن الثقافة البعثية تموت. لم تعد تنتج شيئاً يعتد به.

كان التمرد يشبه كثيراً “ثقافة الانشقاق” التي عرفتها دول المعسكر الاشتراكي والسوفياتي. أي الخروج على أدب السلطة وأيديولوجيتها. لكن مع فارق أن النظام السوري حينها لم يكن متنبهاً كفاية لـ”خطورة” التجريب الأدبي أو الفني. وهذا ما سيسمح هناك في حلب، بنشوء الملتقى الأدبي لجامعة حلب، الذي لعب محمد جمال باروت دوراً تأسيسياً له، لتنطلق الشرارة مع مجموعة شبان: فؤاد محمد فؤاد، خالد خليفة، لقمان ديركي، حسين بن حمزة، نجم الدين سمان، عبد اللطيف خطاب، عبد السلام حلوم، عمر قدور، أليف مسوح.. هؤلاء حسب اللقب الذي أطلقه باروت عليهم، “الأنبياء الصغار”، سيشكلون ظاهرة شعرية أدبية تفترق عن الجيل السابق.

في دمشق أيضاً، ستتبلور أكثر تأثيرات مجموعة حلب، وستجد منبرها الأبرز في مجلة “ألف” التي أصدرها سحبان سواح، بالتعاون مع أحمد معلا، أحمد اسكندر سليمان، محمود السيد.

وسيظهر شعراء وكتّاب من أمثال عابد اسماعيل ونبيل صالح وحكم البابا وأكرم القطريب وخليل صويلح وطه خليل، وإلى جانبهم ممدوح عزام وروزا ياسين حسن ورشا عمران (وعذراً إن نسينا أسماء أخرى). بل وسيعاد اكتشاف وتقدير الشعراء منذر مصري وبندر عبد الحميد وعادل محمود ونوري الجراح.

كانت مقاهي دمشق، الروضة والهافانا وبرازيليا، تعج بالفنانين التشيكليين الجدد والروائيين والمسرحيين والشعراء، والصحافيين.

لم يكن الأمر مقتصراً على هؤلاء. يمكن الانتباه مثلاً للخميرة اليسارية المعارضة التي كانت -للمفارقة- متمكنة في وزارة الثقافة نفسها، بوجود بطاركة كبار أمثال أنطون مقدسي، الذي شجع على توسيع حرية الكتابة والنشر. كما أن الوزارة، ضمت أفضل جيل سينمائي على الإطلاق مع محمد ملص وأسامة محمد وعمر أميرالاي وعبداللطيف عبد الحميد. عدا عن إصدار أهم المجلات المختصة في العالم العربي بمجالات السينما والفن التشكيلي والمسرح.

إلى جانب وجود قامة سعدالله ونوس، كان فواز الساجر، وفايز قزق وغسان مسعود وبسام كوسا وحلا عمران وأمل عمران.. ولا ننسى أدوار حنان قصاب حسن وماري الياس في الكتابة والنقد والتدريس، لتكوين العصر الذهبي للمسرح السوري التجريبي والطليعي.

بدا أن الفن التشكيلي أيضاً سيخرج من الصالات الرسمية. وستؤسس منى الأتاسي الغاليري الأهم لتقديم الفنانيين التشيكليين الجدد والمخضرمين.

عاصفة ثقافية على امتداد التسعينات منعت التصحر البعثي. وكان خالد خليفة نموذجاً للكاتب السوري الجديد. بل كان أحد أقوى بروق هذه العاصفة. مزيج من زوربا وهمنغواي، يريد الحياة دفعة واحدة، عريضة وليست طويلة. أقبل بنهم على العيش وقرر الإخلاص فقط لمهنة الكتابة. كان سر نجاحه أدراكه سريعاً أنه ليس شاعراً. تخلى عن قصائده واندفع إلى الرواية. وأيضاً، عرف فوراً سوء روايته الأولى، وضعف الثانية. نادراً ما يستطيع كاتب أن ينقد أعماله بهذه القسوة، ويتخطاها.

وبمعنى أوضح، وضع خالد خليفة مشروعه الروائي، كما روائيي جيله (خليل صويلح، مها حسن، سمر يزبك..)، كطموح لتخطي هاني الراهب ووليد إخلاصي وحيد حيدر وحنا مينا. وسيكون الأقدر على ذلك بالنظر إلى نجاحه عربياً، وعالمياً.

أيضاً، وعلى عكس ما أصاب الثقافة العراقية في زمن صدام حسين من عزلة بالغة الأذى، كان مثقفو دمشق وفنانوها ومبدعوها بالغي الانشداد إلى الخارج، إلى الصلة بالعالم، أولاً عبر بوابة بيروت وأرصفتها وصحفها ومجلاتها ومسارحها.. على نحو مصيري وبوعي جوهري لمعنى الاعتراض على التسلط في العاصمتين، وعلى مطلب الحرية.

ربما لهذا السبب، لم يغادر خالد خليفة دمشق. كانت لديه مهمة البرهان أن الحرية لا تزال ممكنة هنا..  

نشرت على المدن هنا

المصدر
المدن
زر الذهاب إلى الأعلى