خالد خليفة: أكتب عن ضحايا لم تنصفهم العدالة

يحتل الروائي السوري خالد خليفة (1964) مكانة مميزة بين الروائيين العرب والسوريين لا يختلف عليها اثنان. فصاحب “مديح الكراهية” يعود دائماً إلى المسكوت عنه في التاريخ القريب والبعيد، معرِّياً ما خفي منه، بأسلوبٍ تخييليّ خلّاق يستند إلى مرويات شفوية ومكتوبة. حضور اسم خليفة اقترن بأسماء روايات تقرأ بلغات عالمية، الفرنسية والإنكليزية والإسبانية والألمانية والإيطالية، منها “مديح الكراهية”، و”لا سكاكين في مطابخ هذه المدينة”، و”الموت عملٌ شاق”، و”لم يصلّ عليهم أحد”. وهذه الأخيرة صدرت في منتصف عام 2019، واختيرت في القائمة الطويلة للجائزة العالمية للرواية العربية (بوكر) لعام 2020. “ضفة ثالثة” التقت خالد خليفة، في حديث عن روايته الأخيرة، وعلاقته بالجوائز، وأثر كتابة السيناريو على تجربته:

الإفلات من العدالة مستمر

بالحديث عن روايتك “لم يصلّ عليهم أحد”، نجد أنّها واجهة لواقعٍ متكرّر عبر التاريخ في أزمان الكوارث الطبيعية والسياسية. من هم الذين لم يُصلّ عليهم؟
العنوان قد يكون فخاً لما نستطيع قوله. دعنا نعيد صياغة السؤال كالتالي: من هم الذين قتلوا في كل الأزمنة ولم تنصفهم العدالة، ولم يدفع قتلتهم الأثمان؟ الكوارث الطبيعية أمر قدري نستطيع تفهمه، لكن المجازر التي وقعت في القرن التاسع عشر، وما قبله، لم يحاسب مرتكبوها حتى الآن.

“أتعامل بقسوة شديدة مع الشخصيات التي تريد أن تأخذ أمكنة غيرها”

خالد

نحن نتحدث عن مئات آلاف الضحايا، ومنها مجازر تعرض لها السريان على أيدي العثمانيين في مراحل مختلفة من احتلالهم لسورية والعراق. وما زالت المجازر والقبور الجماعية مستمرة، وهؤلاء الضحايا لن يصلي عليهم أحد أيضاً، والإفلات من العدالة مستمر، وسيبقى مستمراً إلى وقت ليس بالقصير.

تعود في الرواية إلى سورية القرن التاسع عشر، ومنتصف القرن العشرين. هل أنت في صدد اختيار منهجٍ جديد في الكتابة، أم أنّ النص أخذ مساره الخاص دون أن يكون نهجاً مستمراً في الكتابة؟

في كل رواية هنالك سؤال أولي ورئيسي يجب الإجابة عنه، قبل بدء بناء العمل: ما هي الضمائر المستخدمة؟ التقنيات؟ مستوى اللغة؟ كل هذه الأسئلة قد لا تجد أجوبة نهائية، خاصة إذا علمت مثلاً بأنني أكتب ببطء شديد، وأعيد الكتابة مرات عديدة. في هذه الرواية، احتجت إلى 11 سنة منذ ولادة فكرتها الأولى أثناء تصويري لبرنامج وثائقي في الجزيرة السورية، ورأيت هناك الكنائس المهجورة، قرى سريانية فارغة بالكامل. سمعت حكايات مؤلمة عن الأرمن واليهود والسريان والأكراد، وسمعت حكايات عن تاريخ أمكنة، ومنها حكاية كنيسة المالكية التي أشعلت الشرارة عام 2006، لتبدأ رحلة بحث طويلة، وكتابة (رشز)، واختبار تقنيات وشخصيات. وكتابة الرشز هي الكتابة الأولى الحرة، يجري فيها اختبار الحكايات والشخصيات والضمائر. تخللت تلك الكتابة رحلات إلى نصيبين، وماردين، وكانت الرواية تتقدم ببطء شديد، إلى أن تجمعت لدي صفحات كثيرة فوضوية. في عام 2015، بدأت ببنائها، وكنت مقيماً في بوسطن.

“مسودات روايتي “لم يصلّ عليهم أحد” وصلت إلى 19 مسودة”

خالد

وسأختصر لأني أستطيع الحديث ساعات طويلة عن كتابتها من الفكرة الأولية إلى آخر جملة من النسخة النهائية التي انتهت عام 2017. يكفي القول بأن مسوداتها وصلت إلى 19 مسودة، وكان من الممكن ألا ينتهي زمن كتابتها. جاذبيتها بالنسبة لي حفرت عميقاً في حياتي. وعلمتني كثيراً عن التقنيات. قد يكون لهذه الرواية مسارها الخاص الذي قد لا يتكرر! لا أعرف.

في الرواية شخصيتان أساسيّتان إن لم نقل رئيسيتين، وهما حنا كريكوس، الناجي من مقتلة عائلته، والرجل الماجن اللاهي الذي يتحوّل إلى ناسكٍ في دير زهر الرمان بعد موت زوجته وابنه، وشخصية زكريا البيازيدي، ابن المصرفي أحمد، والشغوف بتربية الخيول وحفظ أنسابها. ما هو معيار اختيار شخصياتك الأساسيّة في رواياتك؟

لكل رواية معيارها الخاص. هنا كانت الشخصية الرئيسية هي حنا، ثم أحمد البيازيدي، وسعاد، وبعد ذلك أتت شخصية زكريا، ثم عازار، وسارة، ووليم، إلى درجة فكرت بأنها قد تكون رواية عن خمسة أصدقاء. كانت رواية عن هؤلاء الأصدقاء الخمسة، عن مصائرهم، وعن تحولات حنا التي كانت تنمو وتقود كل التغييرات. سأخبرك شيئاً: طلبت من صديقي عائد أبو حسون، وهو كاتب وشاعر مقيم في الكويت منذ زمن طويل، هجر الكتابة، وعاد إليها من جديد، وهو صديق عمر، طلبت منه قراءة المسودة، وفاجأني بجرده لشخصيات العمل الرئيسية والثانوية، وفوجئت بأنها تجاوزت التسعين شخصية، كنت أنظر إلى الجدول، وأحاول رسم شبكة العلاقات بين هذه الشخصيات، فحذفت بعض الشخصيات الثانوية. كان المشهد مرعباً بقدر ما كان باهراً، إنها رواية أجيال، منفتحة على إضافات قد لا تنتهي لو أردنا. أما عن سؤالك عن المعيار، إن كان هو نفسه في كل الروايات، أو إن كان يشكل قاعدة رئيسية، فإنني لا أساعد شخصيات غير قادرة على العيش. ولا يحزنني رحيل الشخصيات المبتورة، لكن تفتنني الشخصيات التي تدافع عن وجودها.

“لا أساعد شخصيات غير قادرة على العيش. ولا يحزنني رحيل الشخصيات المبتورة، لكن تفتنني الشخصيات التي تدافع عن وجودها”

أتعامل بقسوة شديدة مع الشخصيات التي تريد أن تأخذ أمكنة غيرها، ففي “مديح الكراهية” نتذكر أن شخصية رضوان كانت تريد الهيمنة على كل شخصيات العمل. وهنا أرادت كل من شخصية سعاد، وحنا، وعازار، ووليم، وزكريا، إعادة اللعب مرة أخرى، لذا كان تدخلي صارماً. وهنا يجب ذكر شخصية عائشة وجاذبيتها، ووليم ومريم، كل هذه الشخصيات كانت تخبرني بأن الكتابة لن تنتهي لو أردت. اضطررت إلى التوقف عن الكتابة هناك، على الرغم من وجود خيار آخر، لن أتحدث عنه الآن. بالنسبة لي، أعيش هاجس المكان اللائق بالشخصية، ولم أجبر شخصية على الوجود، دوماً الباب مفتوح لأي شخصية تريد المغادرة، ولا أفكر في بطولة مطلقة لشخصية واحدة، ما عدا بلبل في (الموت عمل شاق)، التي فكرت فيها ربع قرن تقريباً، وحين وجدت لها مكانها في كانت سعادتي لا توصف، لكن في الوقت نفسه أخضعتها للمعايير نفسها. وأذكر أيضاً شخصية الراوية في (مديح الكراهية)، التي خضعت للمعايير نفسها.

لا أفكر في بطولة مطلقة لشخصية واحدة، ما عدا بلبل في (الموت عمل شاق)، التي فكرت فيها ربع قرن تقريباً

نستطيع عولمة مدننا عبر الكتابة

تحضر مدينتك حلب في هذه الرواية، كما تحضر في روايات سبقتها، بسرد تفاصيل دقيقة عن أماكن وشخصيات مختلفة. وتشير إلى مكانتها لديك بقول الخياط جورج “لماذا نسافر إن كان العالم يأتي إلى حلب عاصمة العالم؟”. إلى أيّ حد يمكن للروائي أن يعولم مكانه في سرده؟

بالتأكيد، نستطيع عولمة مدننا عبر الكتابة، لكن مع حلب الوضع مختلف تماماً. فحلب، طوال تاريخها، كانت مدينة العالم (بالإذن من ربيع جابر). وفي اعتقادي، أن حلب، رغم أن الأضواء فيها تبدو منطفئة، وتقبع في الزاوية المهملة، هي مكان، وهي معنى لا يمكن للعالم أن يتجاهله. في القرن التاسع عشر، كانت حلب عاصمة العالم، مع إسطنبول، والبندقية، ومرسيليا، ومراكز أخرى. وحكاية حلب تبقى أكثر حزناً من أية مدينة أخرى، كانت تستطيع مع القاهرة والإسكندرية وبغداد والقدس ودمشق وفاس، منح العالم ما يحتاجه، لكن لم يسمح لها ولأخواتها القيام بدورها التاريخي، وجرى تهميشها وتدميرها. وما نراه اليوم من تدمير مادي حقيقي، وليس مجازياً، هو تتمة لما قام به الغزاة في القرون السابقة.

تلمّح في فصل “الحبّ المستحيل” إلى انتشار الأفكار التحرّرية والقومية العربية بين مثقفي المدينة في تلك الحقبة، بشخصية عائشة المفتي المثقفة العائدة من إسطنبول. ما هو دور حلب تاريخياً في اليقظة العربية أواخر القرن 19 ومطلع القرن 20؟

كانت حلب عاصمة مهمة من عواصم التنوير، ولا يمكن الحديث عن ذلك الزمن من دون الحديث عن عبد الرحمن الكواكبي ورفاقه، وعن تجارب الصحافة في ذلك الزمن، والنوادي، والأفكار. كانت مدينة حية بكل ما تعنيه الكلمة، وعلى الرغم من آثار زلزال 1822، بقيت المدينة حية لعقود، إلا أن المنع السياسي المقصود، وتهميش دورها من قبل السلطات العثمانية، جعل نهضتها مبتورة.

السريان أهلي. كل الضحايا أهلي، وأنا حفيدهم، الذي يشعر بدمائهم تسري في دمي

نشرت على ضفة ثالثة هنا

زر الذهاب إلى الأعلى