خالد خليفة: سردية الاوديسا السورية المعاصرة

رحل عن عالمنا الروائي وكاتب السيناريو السوري خالد خليفة 1964 – 2023 أثر أزمة قلبية في منزله في العاصمة السورية دمشق. وعلى الرغم من أن الراحل لم يتجاوز التاسعة والخمسين، إلا أن سيرته تميزت بامتلاء وثراء لافتين للنظر، ويمكننا في هذا العرض أن نشدد على اختيارات رئيسية وجهت هذه السيرة، ويمكن اختزالها في إيمانه الراسخ بأن الاستبداد مرادف للموت والخراب واختيار الكتابة بوصفها فعل مقاومة وقرينة دالة على ولع بالحب والحياة.

مثلت تجربة خالد خليفة استثناء دالا في خريطة السرد العربي المعاصر، ولا يسعنا اختزال مسوغات هذا الاستثناء في الأسلوب السردي الذي اختطه لنفسه، أو في القضايا والثيمات والعوالم الممكنة التي سعى إلى التعبير عنها، إذ أن كثيرا من كتاب ومبدعي الأوديسا السورية المعاصرة يشتركون فيها، مع التشديد على فروق واختلافات يمكن للقراءة النقدية الواعية والحصيفة ان تخلص إليها.

راهن مبدع «مديح الكراهية» على زواج جميل بين الكتابة السردية والفرجة المشهدية، وأقصد هنا تخصيصا الدراما التلفزيونية والسينمائية، وقد تحددت الغاية الرئيسية في تخليص الكتابة الأدبية الروائية من نخبوية القراءة، وتوسيع دائرة التلقي والمقروئية. ويمكننا في هذا المعرض التنويه بحرص خالد خليفة على كتابة معظم أعماله باستثمار دال للفرجة الدرامية. شكلت كتابة السيناريو بالنسبة له والحالة هذه، فرصة لاستشراف هذه الغاية، وكانت المحصلة أعمالا درامية وسينمائية توزعت بين المسلسل التلفزيوني والفيلم السينمائي والوثائقي، ونذكر من بينها «قوس قزح» و»سيرة ال الجلالي» و»العراب» و»ظل امرأة» و»هدوء نسبي».

لم يكن خالد خليفة على عجلة من أمره فيما يرتبط بمشروعه الإبداعي، وكانت روايته «مديح الكراهية» الصادرة عام 2006 عن دار أميسا للنشر والتوزيع تمثيلا دالا على ذلك. استغرقت كتابة هذه الرواية العجيبة والمثيرة ثلاثة عشر عاما. وعلى الرغم من كون هذه الرواية الثالثة في مسيرة الكاتب، بعد «حارس الخديعة» عام 1993 و»دفاتر القرباط» عام 2000 وأعقبتها ثلاث روايات أخرى «لا سكاكين في مطابخ هذه المدينة» 2013 و»الموت عمل شاق» 2016 و»لم يصل عليهم أحد» 2019، إلا ان حضورها القوي والثقيل هيمن على التجربة الإبداعية برمتها، وحجب وطمس القيمة الجمالية الحقيقية للأعمال الأخرى. يمكننا قراءة الفصول الأربعة لهذا العمل الاستثنائي بوصفها جدارية تتعاقب عليها حكايات ومصائر ذوات إنسانية تحيا في غمرة الصراع بين السلطة الحاكمة في سوريا وجماعة الإخوان المسلمين. وتخوض شخصيات الرواية، عمر وصفاء ومريم ومروة وخليل وبكر وعبد الله وزهرة، صراعا غير متكافئ مع السلطة القائمة بأجهزتها القمعية الرهيبة، وقدرتها على استئصال واجتثاث الحياة، وتجذير الهشاشة والخواء والتشوه. وعلى امتداد تطور وتنامي الأحداث وتعدد واختلاف الفضاءات بين دمشق وبيروت ولندن وأفغانستان وأقبية السجون والمستشفيات والمشارح، نشهد تقلص هامش الحب ولغاته وتعبيراته لصالح سطوة وهيمنة الكراهية: «أصبح الحقد عنقود عنب ناضج، يتدلى من دالية متروكة للعابرين. أرى حلب من خلف غطاء الوجه الأسود فتبدو لي مكانا لائقا للبحث عن الكراهية. امتدحها فتنتابني رعشة لذيذة».

يمكننا في المحصلة الأخيرة القول إن الموت يمثل البوصلة التي تحدد اختيار الكتابة عند خالد خليفة. ولا تنفك النصوص الأخرى من قبيل «لم يصل عليهم أحد» و»لا سكاكين في مطبخ المدينة» عن ذلك؛ بحيث يمكننا اعتبارها تنويعات سردية على حكاية إطار عنوانها الرئيس الحرب والموت في سوريا، والاستبداد وتوابعه الكارثية.

تمثل الأعمال الروائية الأخرى لخالد خليفة تعبيرا عن عوالم تهيمن عليها القتامة والكوابيس، ويهيمن فيها العنف والموت، في أكثر صورها فظاعة. ويمكن اعتبارها والحالة هذه تأريخا سرديا للواقع السوري الراهن، الذي تمتزج فيه الكوميديا السوداء بجرعات ضافية من المأساة والعبث، وفضحا وإدانة لا لبس فيهما للآثار البغيضة للاستبداد على السيرة اليومية للذات الإنسانية، في المكان والتاريخ. تسعى رواية «الموت عمل شاق» في هذا السياق إلى تسليط الضوء على عبثية الوجود الإنساني، حين تروي تفاصيل المعاناة التي خبرها بلبل من أجل تنفيذ وصية أبيه، والقاضية بدفنه في مقبرة قريته العنابية في غمرة الحرب الأهلية الطاحنة التي عصفت بسوريا منذ 2012.

تمتلئ هذه الرواية ذات الكثافة المثيرة بمشاهد سردية مقززة وفظيعة عن الموت، ليس بوصفه نهاية طبيعية، وإنما باعتباره تتويجا لمسار من السحل والتنكيل بالكرامة الإنسانية. وفي بلاد تتماهى بالقائد ويسفر فيها طول العهد بالاستبداد عن تشوه في القيم والرؤية الى العالم، يتحول الموت بالضرورة إلى «عمل شاق». تستشرف رحلة بلبل الرهيبة في سعيه إلى تنفيذ وصية أبيه مستوى الكوميديا السوداء التي تتاخم حد السخرية الجارحة. يجد القارئ ذاته نهبا لمواقف وكوابيس مريعة: «قطعوا خمسين كيلومترا في أربع ساعات. عناصر الحواجز الثلاثة تساهلوا معهم حين رأوا الجثة منتفخة.. في الطريق بقايا المعارك واضحة للعيان. دبابات محطمة وسيارات محترقة، بقع دم متيبسة.. وفي البعيد تبدو بيوت أخرى محترقة وشوارع قرى صغيرة يتحرك فيها عدد قليل من البشر، أو الحيوانات، شبه مهجورة لا توحي حركتها الصباحية سوى بالموت والنزوح».

يمكننا في المحصلة الأخيرة القول إن الموت يمثل البوصلة التي تحدد اختيار الكتابة عند خالد خليفة. ولا تنفك النصوص الأخرى من قبيل «لم يصل عليهم أحد» و»لا سكاكين في مطبخ المدينة» عن ذلك؛ بحيث يمكننا اعتبارها تنويعات سردية على حكاية إطار عنوانها الرئيس الحرب والموت في سوريا، والاستبداد وتوابعه الكارثية. وإذا كانت جثة الأب الشخصية المحورية لرواية الموت عمل شاق، فإن جثة الأم تلقي بثقلها على دينامية السرد في «لا سكاكين في مطابخ هذه المدينة». يتحول الموت في هذه الرواية ذات العوالم الكابوسية إلى شخصية محورية تلقي وطأتها على دينامية الشخوص الأخرى، وتعيد تكييف الفضاءات مع ما يستدعيه من صور وتمثيلات: «ننتظر نهوض أمي من غيبوبتها، وتوقف هذيانها الدائم عن توابيت تعبر صالون منزلنا. تنثر رائحة الموت في كل الزوايا. تدعو بالحياة المديدة للرئيس الذي لا تصدق خديعة موته».

انتصر خالد خليفة للحرية بوصفها قيمة مناهضة وخصيمة للاستبداد، وقد بدا ذلك جليا في روايته «مديح الكراهية» التي صدرت في البداية في سوريا، قبل أن تقوم الرقابة بحظرها ويعيد الكاتب نشرها في بيروت عن دار الآداب العريقة. وكان انحيازه دون مواربة منذ بداية الربيع العربي في سوريا إلى الثورة، ودفاعه عن مبادئها وأهدافها تجسيدا جليا لذلك. بيد أن ما يحسب للكاتب الراحل إيثاره البقاء والعيش داخل سوريا عوض الإقامة في المنفى، خلافا لغيره من الكتاب والمبدعين السوريين، ممن التزموا بدورهم موقفا مؤيدا للثورة. لم يخف الكاتب الراحل ارتباطه العضوي بمحنة ونكبة بلده. وقد حرص على توثيقها إبداعيا في ارتباط بسيرة مسقط رأسه حلب. وإذا جاز لنا القول إن «النكبة السورية» قد أسهمت في ظهور تجارب متعددة في الكتابة الأدبية، سعت إلى استثمارها وتوظيفها. ونذكر على سبيل التمثيل نبيل سليمان وديمة ونوس وشهلا العجيلي وسومر شحادة ومها حسن ونهاد سيريس وشادية الأتاسي وغسان جباعي ورباب هلال وعبدالله مكسور. بيد أن اللافت للانتباه في هذا الخصوص التفاوت الكبير في ما يهم القيمة الجمالية والمعرفية، علاوة على سطوة منطق التعاطي الانطباعي الساذج مع حدث الحرب. ولا ننسى في الآن نفسه الحضور اللافت للرؤية النفعية في الكثير من هذه التجارب، التي تولي أهمية أوفر للحضور في سوق الأدب العربي المترجم إلى لغات أجنبية. وأعتقد في ما يهمني ومن خلال مصاحبتي لكل ما كتبه خالد خليفة من نصوص روائية، حرصه على استبطان الجذور التاريخية والثقافية ووصل أسبابها ليس بالشروط المباشرة والمحايثة للراهن الدموي الرهيب الذي تنوء سوريا تحت وطأته، وإنما بذهنية الواحدية وثقافة الإجماع وتقديس وتأليه الفرد الحاكم.

نشرت على القدس العربي هنا

المصدر
القدس العربي
زر الذهاب إلى الأعلى