خالد خليفة.. في مديح الإنسانية

صدمة كبيرة تلقَّاها الوسط الثقافي العربي بوفاة الكاتب السوري خالد خليفة، يوم السبت 30 من سبتمبر 2023، وسبب الإحساس العالي بفجيعة رحيله أنه لم يكن قد تجاوز عامه التاسع والخمسين، فقد وُلد في 1 من يناير عام 1964، كما أن صداقاته تجاوزت حدود وطنه سوريا وامتدت إلى كل مكان سواء في العالم العربي أو حتى إلى دول العالم حيث يقيم بعض الكتَّاب العرب في المهجر أو المنفى.

شكَّل خالد خليفة حالة إنسانية وإبداعية فريدة، كتب للتلفزيون سيناريوهات بعض المسلسلات مثل «قوس قزح» و«سيرة آل الجلالي»، و«ظل امرأة»، و«هدوء نسبي»، و«العرَّاب»، وأصدر عددًا من الروايات مثل «لم يُصلِّ عليهم أحد»، التي دخلت في القائمة الطويلة للجائزة العالمية للرواية العربية، و«الموت عمل شاق»، و«لا سكاكين في مطابخ هذه المدينة» التي حصلت على جائزة «نجيب محفوظ» للرواية ووصلت إلى القائمة القصيرة للجائزة العالمية للرواية العربية، و«مديح الكراهية» التي رُشِّحت لجائزة الإندبندت العالمية وكذلك لجائزة الرواية العربية، و«دفاتر القرباط»، و«حارس الخديعة»، كما اتجه خالد في سنواته الأخيرة إلى الرسم وأهدى أصدقاءه عددًا من لوحاته.

قلب خالد خليفة خانه فرحل تاركًا الحسرة الشديدة لقلوب أصدقائه ومحبيه، الذين يسردون، في هذه المساحة، مواقف إنسانية رائعة جمعتهم به.

في بلاد الآخرين

الكاتب السوري المقيم في فرنسا خليل النعيمي يقول: «لم نلتقِ في بلادنا. التقينا في بلاد الآخرين. والآن يمكن لي أن أتصوّر كيف كان يمكن أن يكون لقاؤنا لو تم في دمشق؟ دمشق المدينة التي أحبُّ، وهو أيضًا. أنا من بادية الشام وهو من حلب. مع ذلك تصاحبنا منذ أن التقينا. الإنسانية، إنسانيته الطافحة المرسومة على وجهه، والمبثوثة في شُعَيْرات لحيته الكثيفة تفضح أسراره المليئة بالإبداع».

ويضيف: «خالد خليفة؟! أسأله وهو يقذف نفسه عليَّ مثل باقة من ورد. بلى! يقول. وأتوقف قبل أن أتابع تساؤلاتي: كم أنا سعيد برؤياك يا رجل؟ ويجيب ضاحكًا: أنا أعرفك يا خليل. كانت اللحظة مملوءة بالدهشة، والقاهرة العظمى تحيط بنا من جميع النواحي. القاهرة التي صارت لنا وطنًا بعد أن منعنا القمع من التمتُّع ببلادنا التي لا تزال طازجة في نفوسنا».

الوضع المأساوي في سوريا لم يكن إلا عتبة من عتبات نضوج تجربته الرائدة

خليل النعيمي

وقفا طويلًا يتحدثان، خالد والنعيمي. كان جو القاهرة يملأ النفس بالانشراح، وبالخصوص، كما يقول النعيمي، بسبب اللقاء من غير ميعاد. كان النعيمي قد قرأ له أكثر من كتاب، لكن حضوره الشخصي محا كل ما قرأه برمشة عين. لم يفهم خالد خليفة، ربما، سرّ صمت النعيمي المفاجئ. كان النعيمي قد صار في عالم آخر.. يتساءل: «أهذا هو معنى الصداقة المفاجئة والحميمة منذ أول لقاء؟ ولماذا لا يكون شيئا آخر؟ من جديد تحاضنّا ونحن نردد أسماء بعضنا بعضًا».

وينهي كلامه قائلًا: «خالد خليفة يكتب بجسده، لا بالقلم. يكتب بعينيه الناعستين اللتين تختزنان كل ما يرى. روحه المتوثّبة هي التي تمده بطاقة إبداعية شديدة الخصوصية. أما الوضع المأساوي في سوريا فلم يكن إلا عتبة من عتبات نضوج تجربته الإبداعية الرائدة. ولكن متى تَعتبِرُ سوريا بما أبدعه خالد خليفة حولها؟ وهل تسمع نداءات الإغاثة التي تصمّ الآذان؟».

توابيت شخصياته تملأ المقابر

من جهته يبدأ الكاتب السوري خليل صويلح قائلًا إن «عدّاد الموت السوري لم يتوقَّف عن العمل يومًا، كما في ورديات متعاقبة، لكنه هذه المرّة كان يخبئ طعنة غير متوقّعة، إذ اختار أن يختطف خالد خليفة من دون مقدمات». يصفه بأنه «كائن أثيري لطالما كان عنوانًا للبهجة والحياة الصاخبة وجنون اللحظة، لكن قلة نباهتنا لم تتح لنا أن نرصد اشتغاله على ثيمة الموت بعمق طوال مغامرته السردية»، مشيرًا إلى أنه فيما كان يغوص في «مهنة العيش»، كانت توابيت شخصياته تملأ المقابر، كأن هذه الروح الجنائزية هي بؤرة السرد لديه، من دون مراوغة. ربما أغرق رواياته بالموتى، لكن ثقل المذبحة السورية وضعه في مهبِّ العاصفة مدفوعًا بطهرانية نقية في كتابة تاريخ مضاد، ساعيا إلى إعادة مجد مدينته حلب التي دمّرها الغزاة والانقلابيون والأصوليون، في حفر كورنولوجي لطبقات المدينة التي فقدت بريقها بعفونة طارئة، وإذا به يعود في روايته الأخيرة «لم يصلّ عليهم أحد» إلى القرن التاسع عشر ومطالع القرن العشرين بعمارة سردية صلبة في تفكيك هوية المدينة واحتضان إثنياتها ومذاهبها على نحوٍ آخر، معوّلا على لذة الحكي في ترميم مصائر شخصياته الممزقة تحت وطأة الأوبئة والطوفان والزلازل، وبذلك أغلق قوس السرد على أملٍ في تأثيث المكان بما ينقصه قبلًا. ربما أثقل خالد خليفة نصوصه بمساءلة السرديات الكبرى أكثر من عنايته بمتطلبات الرواية الجديدة لجهة الكثافة وإعلاء شأن الهامش وتطلعات الأفراد لا الجموع.

قلة نباهتنا لم تُتِح لنا أن نرصد اشتغاله على الموت طوال مغامرته السردية

خليل صويلح

يكفيه غبطة إذن، بحسب خليل صويلح، بتصدير عناوين رواياته إلى الشارع العمومي باعتبارها دمغة خاصة به مثل «الموت عمل شاق» العنوان الذي تداوله المئات في رثائه حتى من لم يقرأ له فعلًا. ويقول: «الآن، أتأمل هديته لي إحدى لوحاته المعلّقة على جدار غرفة مكتبي بعد أن اقتحم حقل التشكيل: ورد أحمر في حقل فسيح ملطخ بالأخضر والأزرق، لعله الآن يرقص هناك بكامل ابتسامته».

الصداقة من أول لحظة

الكاتب المصري إبراهيم فرغلي يصف خبر وفاة خالد خليفة بأنه «صاعق لا يصدق بالنسبة لي ولا بالنسبة لمئات الأصدقاء الذين أعلم تمامًا ماذا يعني خالد بالنسبة لهم». التقى به لأول مرة في الدورة الأولى لجائزة البوكر، وكانت روايته «مديح الكراهية» بين الأعمال التي بلغت القائمة القصيرة مع الراحلين مكاوي سعيد وبهاء طاهر رحمهما الله، وبقية القائمة.

رأيته يسبح في وقت مبكر من اليوم.. وعلى وجهه ابتسامة لا تفارقه

إبراهيم فرغلي

يعلق فرغلي: «كنت قد قرأت الرواية قبل لقائي به، وكانت لديَّ ملاحظات على إيقاعها، ولكني كنت معجبًا بفكرتها، ومع ذلك فقد كان مستوى الروايات متقاربًا ولم يكن من السهل التكهن بمن يستحق الفوز بها. عندما التقيت به لأول مرة، تحدث معي كأنه يعرفني من زمن بعيد. حدثني عن صداقاته الوثيقة ببعض الأصدقاء المشتركين وبينهم سيد محمود. وتبيَّنت كيف أنه صديق حنون، كريم، محب لأصدقائه بشكل لا يصدق، وحسَّاس، ومحب للحياة. تجده يسبح في وقت مبكر من اليوم، وعلى وجهه ابتسامة لا تفارق وجهه».

ويضيف: «في يوم إعلان الجائزة جلسنا معًا جلسة طويلة في الفندق لنتناول القهوة. حدثني عن عمله بين السيناريو والرواية، وكيف ينظم وقته بينهما، والأماكن التي يكتب فيها. عن علاقاته، وصداقاته. وفي مساء اليوم نفسه وبعد إعلان فوز رواية «واحة الغروب» للأستاذ بهاء طاهر، وانتهاء الحفل، أصر أن يدعوني مع أصدقاء آخرين للاحتفال، كأنه أخ يريد إسعاد إخوته بأي شكل. كان صديقًا حنونًا بشكل لافت. بعد دقائق من الكلام معه شعرت أن بيننا عمرًا من الصداقة الممتدة. وعلى امتداد السنوات كان دائمًا حاضرًا للتهنئة بكتاب جديد أو في أي مناسبة. إنه شخصية استثنائية نادرة، وحبيب، وصديق يعتز المرء بصداقته، وسوف أفتقده كثيرًا، كما سأفتقد نداءه لي في اتصالاتنا أو مراسلاتنا حيث اعتاد أن يناديني: أبو البرِّ. رحمه الله وألهم ذويه وأحبابه الصبر والسلوان».

عاش معي في اللاذقية

الكاتب السوري سومر شحادة يعيش مع خالد خليفة في المدينة نفسها «اللاذقية» منذ سنوات، لكنهما التقيا في دمشق مرة واحدة. ومنذ ورود خبر رحيله، وسومر يحاول تفسير عدم اللقاء معه في اللاذقية. يقول: «أخال أنَّ السبب هو الصورة التي كان خالد يظهر بها بين أصدقائه. أقصد، كان يبدو شخصًا قريبًا، ليس من الصعوبة أن تلتقي بهِ مصادفة في المقهى أو في الشارع، كان يعيش مع الآخرين بلا حواجز. وهذا الانطباع الذي كان لديَّ عنه، جعلني أعتقد أنَّ أمامنا متسعًا للقاء. هنا أتذكر موقفًا بعيدًا ربما يعود إلى عام 2010 أو حتى قبله، لا أستطيع التأكيد على التاريخ بالضبط، لأنَّه ينتمي إلى نمط من الذاكرة التي تسبق الحرب، إلى نمط اقتصَّت منه الحرب.

خالد عاش معي.. أحبَّ البحر نفسه والمدينة نفسها وكتب عن الناس أنفسهم

سومر شحادة

في هذا الموقف رأيت خالد خليفة يمشي على أحد أرصفة اللاذقية، وكنتُ أعرفه. لكنني لم أتشجّع وأسلّم عليه. التقينا إذن بعد سنوات في دمشق، مرة يتيمة، ليس لديَّ صورة تجمعني معه، لكن عدم اللقاء، لا يمنعني من القول بأني أعرفه، لأنَّ خالد عاش بيننا، معنا، أحبَّ البحر نفسه والمدينة نفسها وكتب عن الناس أنفسهم الذين أكتب عنهم. وأخال أنَّ جزءًا من الشعور العام بالفقد، يعود إلى أنَّ خالدا كان واحدا منَّا. إذن، انتهت الحرب، ولم أتعلّم جميع دروسها. أفكر بخالد خليفة مع عجالة موته ومباغتته، وأقول لنفسي؛ كان علينا أن نلتقي في اللاذقية. والدرس الذي أعطتنا إياه الحرب عرفه خالد خليفة، الروائي السوري المعروف، والدرس هو؛ علينا أن نعيش، وألا نؤجل لقاء اليوم إلى الغد، لأنَّ الغد مشوب بالموت».

لا يمكن تخيله من دون ابتسامة

الكاتبة الجزائرية لميس سعيدي تؤكد أنه من الصعب تخيّل وجه خالد خليفة وهو لا يبتسم أو يضحك. كان خالد يمزح كثيرًا ويضحك كثيرًا، بخفة دم تعكس خفة حركته وحضوره وخفة مروره في حياة كل من عرفه، مع ذلك حين ينغمس في حديث عن الأدب والكتابة، كانت ملامحُه الطفولية تصبح جادّة ونبرةُ صوته تتخذ إيقاع من يسرد أغنية تعيد الطفل التائه إلى البيت وتعيد الأحلام إلى حكاياتها.

انتبه في روايته «مديح الكراهية» إلى مأساة الإنسان وتضاؤل خياراته

لميس سعيدي

وتحكي: «التقيتُ بخالد خليفة لأوّل مرّة في سنة 2008 بمهرجان Writers Unlimited بمدينة لاهاي بنيذرلاند، وبعد التعارف السريع وتبادل بعض النكات العابرة، شرع في الحديث عن الكتابة ومشروعه الأدبي وطريقة عمله، بجدية نادرة، وبعيدًا عن الادّعاء وعن البوهيمية والعشوائية التي يتبناها بعض الكُتاب لإخفاء ارتباكهم وعدم ثقتهم في الكتابة كطريقة للحياة والوجود. كان خالد يعتبر الكتابة مهنة حقيقية، يكرِّس لها ما يلزم من الاحترام والوقت والمجهود، ويدافع عن مشروعه ووجوده ككاتب رغم إقامته في منطقة تضيق فيها الحريات وفسحة الأمل ورقعة المتعة الممكنة».

اقتنت لميس روايته «مديح الكراهية» بعدها بسنوات، وحين قرأتْها فهمتْ لماذا قال لها خالد، بأنه لا يعتقد بأنه سيكتب أفضل منها. ينتبه خالد خليفة في هذه الرواية بحس إنساني وسرد ذكي، بحسب لميس، إلى مأساة الإنسان (والمرأة تحديدًا) الذي تتضاءل خياراته في الحياة بين مخالب الديكتاتورية والتطرف الديني والكبت الاجتماعي حتى تصير الكراهية طوق نجاة مؤقتا من الجنون أو الموت، واستشرافًا لعمق الأزمة في سوريا، الأزمة التي تحوّلت إلى حرب ومأساة وأعداد موتى وضحايا هي مصائر أشخاص من لحم ودم وتواريخ شخصية وذكريات.

تعود لتسرد موقفًا جديدًا: «التقيت خالد لثاني وآخر مرّة في معرض القاهرة الدولي للكتاب في سنة 2018، تعانقنا كصديقين يطويان الزمن والمسافات وسيرة الموت. تفاديت الحديث عن قلق الحرب وإيقاعها وتحدَّثنا عن «العادي»، ونحن نمشي في أروقة المعرض بخطوٍ سريعٍ للقاء الأصدقاء واقتناء الكتب وتبادل الوعود والمواعيد المؤجلة. لكنه قبل ذلك، لم ينس أن يعزّيني في وفاة والدي الذي رحل منذ أربع سنوات، لم ينس خالد خليفة رغم لحظة الطمأنينة العابرة ومحاولة تناسي روتين القلق والفقد، أن ينتبه لحاجة قلب صديقة إلى المواساة وكلمات العزاء».

استولى على قلوب السوريين

الكاتبة السورية عبير داغر أسبر تقول: «استقبلت خبر رحيل خالد خليفة بإحساس عالٍ بالفقد المرشوم فوق سطور الملاحم الكبرى، قهرتني المسافة، والمنفى بدا أكثر بُعدًا، فهذا ما تفعله الغربة بنا، تحيلنا لكائنات تراجيدية تمارس فجيعتها مضاعفة، مضروبة بعشرة ومقسومة على طول بلادنا وعرضها. مع خبر الموت ذاك حضرت الملهاة أيضًا.. فخالد المحاط على الدوام بعشيرة أصدقاء مات وحيدًا.. يا لكسرة القلب».

كل من مرَّ بدربه أو بطاولته في المقهى أو ببيته المفتوح يجزم بأنه صديق عمره

عبير أسبر

تحرك خالد خليفة داخل حياته كنجم، بحسب عبير، مؤكدة أن كل من التقى بخالد أو «خلّودات» كما نادته لأول مرة وللأزل، كل من مر بدربه، أو بطاولته في المقهى، أو ببيته المفتوح الممتلئة أوانيه طعامًا، كل من عبر بطيفه واشتبك معه بحديث أو جدال يجزم بأنه يعرف خالد خليفة كما لم يعرفه أحد. يحلف حلفانًا صادقًا بأنه صديق عمر، وأنه ضحك مع خالد كما لم يضحك صديقان وشبع من كرمه كمن لم يعش الكرم.. وهذا ليس سوء تقدير من محبيه ومعارفه، بل لحرص خالد خليفة على أن يشعر محدثه ورفيقه بأنه كذلك. تعلق عبير: «هكذا هو، كل ما فيه أتى كثيرًا وغزيرًا ومتدفقًا.. شَعره العصي عن الهندمة، عدد صفحات رواياته الجليل، وضحكته الصاخبة وحركات يديه اللتين لا يعرف أين يذهب بهما فيشبكهما على صدره علهما تهدآن».

وتقول: «أحبُّ حسباني على جيل خالد خليفة، فلطالما اعتبرنا النقاد كذلك واضعين اسمينا كروائييْن في سطر واحد، لكنه سبقني إلى قلوب السوريين، سبقنا كلنا، إذ دخل بيوتات سوريا ووجدانها الجمعي لا عبر رواياته فحسب بل من باب أليف ومحبب ولا يمكن رده، ففي سنوات تألق المسلسلات التلفزيونية وقَّع خالد خليفة باسمه كاملًا فوق أمسياتهم وشاركهم العشاء بحميمية رفيق درب وصاحب بيت. أحب السوريون حلب على يديه، فهموها وغفروا تعاليها القادم من اكتمال مدينة لم تجرؤ أن تصبح عاصمة مع أنها كذلك. وعندما تركها انغمس بالواقع السوري حتى نخاعه، سافر في الأمكنة، والعواصم حاملًا ذاته ورواياته أينما حلّ».. وتضيف: «في آخر لقاء لنا في صيف 2011 درت معه على عدة منازل، كانت أحاديث الثورة في عزِّ اشتعالها، كل معارفه من شبان وصبايا اشتبكوا مع المسألة السورية على طريقته، تعرفت بمسعفين، بمحتجين، بمعتقلين شبان وشابات ضربوا في الحراك السلمي الذي بدأ خجلًا وانتهى على عجل. في آخر الليل وجدنا أنفسنا في بيته المطل على الشام، ثرثرنا وضحكنا كما نفعل دائمًا، وعندما سحب «طنجرة منسية» فيها شرائح دجاج مطبوخة بعنايته بالثوم واللبن اكتملت أمسيتنا كأجمل ما يمكن، مع آذان الفجر كنا نتناول الطعام واعين بأسى أن لقاءنا ذاك قد يكون الأخير. مع برد خفيف أعطاني شالًا نسائيًا ناعمًا أخذته بالطبع، فمن يرد عطايا الكريم؟».

رحلة في عالمه

الكاتبة السورية فدوى العبود ترى أن خالد خليفة شعر بأن النهاية تدور خارجًا، لذلك انخرط في الوجود بكل روحه، عاش الحياة بكثافة وأراد تصويرها بكثافة لونية أيضًا، فبرز ذلك في شغفه خلال سنواته الأخيرة بالرسم، وكأنه أراد ابتكار شكل جديد للحياة التي يراها في لوحة.

ومنذ روايته «حارس الخديعة»، والتي تأسست كنص نثري لما يليها وأبرزت بذور قوته اللغوية التي ستتضح وتنضج لاحقًا، رغب أن يعبِّر عن زمن السوريين المعطل وكان على صاحب «دفاتر القرباط» أن ينمو في شروط تجعل من القمع المزدوج حالة يومية عبر «مديح الكراهية»، لكن شخصياته المفككة، الحالمة سرعان ما تنهار لتنخرط في صراعات هامشية، وتتحول أحلامها المقوضة إلى حياة موازية تفتقر للسوية الإنسانية؛ فالناس يخافون من بعضهم، وأصبحوا غرباء في مدنهم.

وفي روايته الرابعة «لا سكاكين في مطابخ المدينة» يتحدد عالم ومشروع السرد لدى خالد. أما في روايتيه «الموت عمل شاق» و«لم يصل عليهم أحد» فيبدو فيهما شخوصه أكثر شجاعة. تقول فدوى العبود أخيرًا: «في كل مرة كان يكتب فيها يُشعِر قارئه وكأنها المرة الأخيرة، كتب مرة أنه وفي كل مرة يخرج من بيته يلتفت إليه وكأنه لن يعود إليه أبدًا. والآن قرر النسر الذي يقف على الطاولة التحليق عاليًا».

نشرت على جريدة عمان هنا

المصدر
جريدة عمان
زر الذهاب إلى الأعلى